ملامح التسوية في غزة: قبول إسرائيل بسلطة «حماس» على المدى البعيد

ميخائيل ملتشتاين.jpeg
حجم الخط

بقلم: ميخائيل ميلشتاين


بعد مرور نصف عام على عملية "حارس الأسوار"، نجحت "حماس" في استعادة كل الأرصدة التي خسرتها جرّاء المعركة التي بادرت إليها بعد انتهاكها بصورة واضحة التسوية التي كانت قائمة آنذاك في غزة. علاوة على ذلك، حصدت الحركة أيضاً إنجازات إستراتيجية لم تكن لديها عشية المواجهة، وأخذت شكل خطوات مدنية غير مسبوقة دفعت بها إسرائيل قدماً، مؤخراً، في قطاع غزة، وعلى رأسها زيادة عدد العاملين في إسرائيل، وإزالة الحواجز من أمام تصدير واستيراد البضائع. بهذه الطريقة عادت إسرائيل و"حماس" إلى الوضع الذي كان قائماً في 10 أيار، اليوم الذي بدأت فيه العملية، وبالتدريج، بدأ ينشأ واقع أفضل بالنسبة إلى يحيى السنوار.
تتقدم هذه الخطوات من دون أن يُطلب من "حماس" التنازل في مسائل جوهرية، مثل قضية المفقودين، في ظل استمرار تعاظُمها العسكري ونشاطها في الضفة الغربية، وبعد أن شجعت الحركة على احتكاكات عنيفة في قطاع غزة في نصف العام الأخير بلغت ذروتها بمقتل أحد حرس الحدود في هجوم على السياج الحدودي. عملياً، تواجه "حماس" طلباً واحداً فقط: المحافظة على الهدوء الأمني في قطاع غزة، ووجود مثل هذا الوضع فترة طويلة يثبت قدرة الحركة على السيطرة المطلقة على المنطقة.
إن معظم الإنجازات التي حددتها إسرائيل مع انتهاء عملية "حارس الأسوار" لم تتحقق نظرياً وعملياً، باستثناء الهدوء الأمني، ومعظم التصريحات التي تتعلق بتغيير قواعد اللعبة تبددت، وعلى رأسها اشتراط الخطوات المدنية بتقدُّم المفاوضات في موضوع الأسرى والمفقودين. بالإضافة إلى ذلك، تبرز الصعوبة التي تواجهها إسرائيل في استيعاب بعض دروس" حارس الأسوار"، وفي طليعتها تعامُل "حماس" مع التسوية بصورة مرنة وغير ملزمة، وعدم ترددها في خرقها بما يتلاءم مع مصالحها. بكلمات أُخرى، كشفت عملية "حارس الأسوار" إلى حد بعيد تقويض نظرية التهدئة التي خرقتها "حماس" من دون أن يسبق ذلك تدهور أمني في القطاع، بينما كانت ذريعة الهجوم ما جرى في القدس.
التسوية الآخذة في الارتسام يمكن أن تقلص قدرة إسرائيل على القيام بتغييرات عميقة في الواقع بقطاع غزة زمناً طويلاً: تواصل "حماس" سيطرتها على المنطقة، وتزداد هذه السيطرة قوة بسبب تحسُّن الوضع الاقتصادي؛ في المقابل يتقلص تأثير السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وبالتدريج تتضاءل فرص عودتها من جديد كي تكون المسيطِرة على القطاع في المدى المنظور (نتيجة عدم قدرة أو رغبة أبو مازن)، وتستمر قطر في لعب دور أساسي ومركزي في القطاع، في الأساس بوساطة المساعدة المدنية التي تقدمها. بالاستناد إلى هذه التوجهات، يتضاءل بالتدريج احتمال وقوع تطورات تؤدي إلى استبدال حكم "حماس"، سواء من خلال إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، أو جرّاء نشوب "ربيع غزّي" يقوّض حكم الحركة.
الدفع قدماً بالتسوية الحالية من دون تنازلات جوهرية من طرف "حماس" يمكن أن يضر بقوة الردع الإسرائيلية إزاء الحركة. يفهم السنوار السياسة الإسرائيلية كدليل على تمسُّكها بالتهدئة الأمنية في غزة رغبةً منها في التركيز على مشكلات أُخرى ("كورونا"، والاقتصاد، وإيران) وبسبب التركيبة الهشة للحكومة الحالية. في الوضع الراهن يقدّر السنوار أن مبادرة إسرائيل إلى هجمات فرصها ضئيلة، ويمكن أيضاً أن يدرس في ظروف ملائمة العودة إلى المبادرة إلى شن معركة ضد إسرائيل - على سبيل المثال، بعد حدوث توترات في القدس والضفة الغربية، أو داخل المجتمع العربي في إسرائيل - وذلك انطلاقاً من الاعتقاد أنه لن يتكبد ثمناً باهظاً في سيناريو من هذا النوع.
التسوية تمنح إسرائيل إمكان ترسيخ تهدئة في المدى القصير، لكنها تنطوي على احتمال تعاظُم التهديدات الأمنية في المدى البعيد. يقلص الواقع الناشئ، بالتدريج، من قدرة إسرائيل على المبادرة إلى شن عمليات هجومية بسبب التدخل العميق للاعبين خارجيين في التسوية الحالية، بينهم مصر وقطر والأمم المتحدة، وهو ما يتيح لـ"حماس" ترسيخ مكانتها في المنظومة الفلسطينية (وفي ضوء فرص الحركة في "اليوم التالي" لرئاسة أبو مازن)، وتطوير قوة عسكرية في مواجهة المعارك المستقبلية ضد إسرائيل.
التسوية الناشئة حالياً تكشف بوضوح كبير قبول إسرائيل اليوم لـ"حماس" كأمر واقع في المدى البعيد، بصورة تشبه إلى حد بعيد قبول وجود "حزب الله" على الجبهة الشمالية. أكثر من ذلك قبول التسوية يُظهر الحقيقة المُرة بأن إسرائيل لا تملك بدائل إستراتيجية حقيقية فيما يتعلق بقطاع غزة. نظراً إلى أن إسقاط حكم "حماس" وإعادة احتلال القطاع من جديد غير مطروحيْن بجدية، وفي ضوء حقيقة عدم واقعية أفكار، مثل نزع السلاح من غزة ونشر قوات دولية في المنطقة، ليس أمام إسرائيل سوى الاختيار بين اشتباكات مستمرة معناها عدم الهدوء الأمني، خصوصاً بالنسبة إلى سكان غلاف غزة، وبين تسوية طويلة الأجل تستغلها "حماس" لزيادة قوتها العسكرية في مواجهة معارك مستقبلية.
على الرغم من التقدم السريع في التسوية، فإن ما يجري ليس مساراً نهائياً، بل هو تحرك تستطيع إسرائيل التأثير في تحديد صورته النهائية. ضمن هذا الإطار، يجب أن تصر على ربط استمرار المضي قدماً بالخطوات المدنية – في الأساس زيادة عدد العاملين في إسرائيل ودفع الرواتب إلى موظفي "حماس" بتمويل قطري - بتلبية مطالبها، وعلى رأسها إحراز التقدم في مسألة الأسرى والمفقودين. ليس من المستبعد أن مثل هذه السياسة سيثير مجدداً الاحتكاكات بين الطرفين، لكن هذا الأمر جوهري لتعزيز صورة إسرائيل التي تآكلت في الأشهر الأخيرة، في نظر "حماس".
في نظرة أكثر عمقاً، تجسد التسوية في غزة عدم وجود إستراتيجية إسرائيلية في الموضوع الفلسطيني - لعدم وجود إرادة أو قدرة - والثمن الباهظ الذي تكبدته إسرائيل حتى اليوم، والذي ستتكبده في المستقبل بسبب ذلك. تحاول إسرائيل التغطية على عدم الحسم بوساطة الدفع قدماً بـ"سلام اقتصادي" من المفترض أن يؤمن تهدئة في المدى القصير، لكنه ينطوي على أضرار بعيدة المدى: في حالة قطاع غزة تحوُّل "حماس" إلى أمر واقع وتهديد متزايد، وفي الضفة الغربية، السير المستمر غير الواعي وغير المخطط له أو المرغوب فيه، نحو واقع الدولة الواحدة.

 عن موقع "معهد السياسات والإستراتيجية"