اليوم تبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عاماً. أنت أنت. أنت كما أنت، كما عرفتك أول مرة. بضع شعرات ألماسيّة اختفت خلف الكثافة.
ولم أكن من الفتيات اللواتي يُغرمْن بالشعر الأبيض، ولم أكن كذلك أُغرم بالشعر الخالي منه. لم تكن تلك من المواصفات التي تلفتني بالرجل، يشغلني ما في الرأس أكثر من ما يطفو على سطحه! كنت أختبئ خلف الشعارات بادعاء واضح.
رغم ذلك، رأسك الذي كان يعلو على جميع الرؤوس المتراصة في إحدى التظاهرات التي جمعتنا في دمشق، هو ما استرعى انتباهي أول مرة، كنت كلما استدرت لتفحص حجم التظاهرة وامتدادها، اعترض وجهك الحشد البشري الذي تجمع لاستنكار القصف الإسرائيلي لمنطقة «دمر والهامة» القريبة من دمشق.
من مقدمة التظاهرة، أستدير بين لحظة وأخرى بنظري نحو الخلف، استعرض حجم التظاهرة، الحشد الطلابي الكبير، في وسط الحشد أرى وجهاً واحداً ما زال عالقاً في ذاكرتي، يطالعني وجه الرجل الأطول قامة، الرأس الذي لا يضع رأسه بين الرؤوس، الوجه الأبيض الذي يمنع استعراضي البصري للمشاركين في التظاهرة. ألحظ أن عيونه المبتسمة تسافر نحوي، ابتسامة تقصد تذكيري بأن لدينا سابق معرفة.
استمتع باستداراتي المتتالية نحو الخلف، تفرح بتفقدي البصري، استدارات مشوبة بخوف مبهم وغامض. تستمر التظاهرة في قطع المسافات بين نظراتي وقلبك، لم أكن أعرف بأني في الوقت ذاته كنت أقطع طريقاً بلا حدود.
بعد تلك التظاهرة طلبت مني الخروج معك. تَقَطَّعت أنفاسي من جسارتك..لكني ذهبت معك مقنعة نفسي بأني أخرج بشروطي، تحديد المكان والوقت.. منذ تلك الشجاعة انصعت خلفك بشروطك، لأسافر معك في سردية مكثَّفة غير مترابطة. كنموذج مصغّر عن حدوتة فلسطينية.
نذهب معاً نحو حكايتنا دون كثير معرفة عن مشاهدها، حاولنا أن نجتهد في رسم فصولها؛ لكن الحكاية الفلسطينية المتكررة أقوى من محاولات تجريد المنطق عن احتمالاته المفتوحة.
بك رأيت ما أريد. رأيتُ فدائياً كاملاً كالذي يأتي في المنام؛ فدائياً يتمنطق بمسدس، جدياً وحازماً، مناضلاً صادقاً، أصيلاً وعملياً، مهام نوعية ومثيرة، فواتيرها تُدْفَع بالدم، لأنها تخلو من الاستعراض الفارغ.
في عامك الثالث بعد السبعين: أنت أنت، بلا تجاعيد أو تغضنات، ليس لك علاقة بعوامل الزمن ولا تؤثر بجلدك الخاصية المغناطيسية والجاذبية الأرضية..كل عام وأنت كما أنت. متخم بالموت، وأنا متخمة بالحزن الذي يرسم مع الزمن ملامحي وسماتي. أنت كما أنت وكما كنت..
ندخل عقدنا السبعين، أحدنا يتقدم الآخر، هل أنت أنت، وهل أنا أنا، هل أنا أنت، وهل أنت أنا. بالنسبة لي، أصبحت أبدأ الحديث مع نفسي، وأشرد قليلاً لأواصل الحديث معك. كل عوالمي في المكان الذي كانت به أوّل مرة. كل شيء كما ودعته أو لم تودعه، عندما ذهبت وحدك دون موعد متفق عليه.
أنا كما كنت، لا أخلف بمواعيدي وعهودي، كنا قد تواعدنا على البقاء معاً، أن نكبر معاً، أن نكون عكاكيز لبعضنا البعض، أن نبقى نبحث عن بعضنا، وأن نجدنا. نبقى معاً ونذهب معاً وأن نقرر معاً في جميع متعلقاتنا. وما زلت في حيرة من أمرنا، من أخذ القرار، من ترك من! من قرر، أخبرني!
كل عام وأنا كما أفعل، ما زلت أحيا وفي داخلي عاصفة من المفردات، وتلتهم عقلي تلك الأفكار التي تعرفها. أنا كما أنا، يأخذني حديثي نحو الذكريات ذاتها، اللذيذة والمؤلمة.
أنا كما أنا، ما زلت أضبط نفسي طفلة تتخبط بين جنبات الحياة. ما زلت كما كنت، أتحمس للوقوف على الأطلال.