روزنامتنا الفلسطينية مليئة بالأحداث والمناسبات، غالبيتها محزنة وكئيبة لارتباطها بالنكبات والنكسات والاحتلال والمجازر والاغتيالات، وأقلّها ما يتصل بمناسبات يفترض أنها إيجابية أو أنها تبعث على التفاؤل كما يفترض بذكرى إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي نحتفل به في الخامس عشر من تشرين الثاني كل عام. وقد مضى على هذا الإعلان 33 عاما من دون ان يتجسد هذا الاستقلال واقعا ماديا على الأرض، بل على العكس بتنا نرى الاحتلال يكرس حضوره في حياتنا، ويثبت تبعيتنا له في كل أمور حياتنا. والانقسام الفلسطيني يتواصل ويستطيل، ومؤسساتنا السياسية تضعف، وظهيرنا العربي منقسم بين من هو متضامن معنا ولكنه عاجز عن دعمنا، ومنشغل بهمومه الذاتية، وبين من يهرول للتطبيع وإقامة العلاقات الكاملة مع الاحتلال والتسليم بأن إسرائيل العنصرية هي دولة طبيعية.
ما زلنا نحتفل بعيد الاستقلال، أو الأدق ذكرى إعلان الاستقلال، بتعطيل الدوائر الرسمية وتنظيم بعض الاحتفالات، وتجديد العهد على المضيّ قدما في العمل من أجل الاستقلال الفعلي، لكن الحقيقة التي يلمسها كل منا أن الاستقلال أصبح مثل السراب، نقترب منه فيبتعد، في بعض الاحيان يبدو قريبا وعلى مرمى حجر منا، وفي أحيان أخرى يبدو أصعب منالا مما حسبنا وظننّا. وهذا التشخيص لا يدعو للتشاؤم او الإقلاع عن الفكرة التي كانت وما زالت وسوف تبقى صحيحة لأنها ترجمة لتوقنا الجماعي للحرية على أرضنا، لكن المراجعة في جميع الأحوال مطلوبة سواء للشعارات أو اشكال النضال وأدواته، أو التكتيكات والعلاقات الداخلية والخارجية وسبل تنظيمنا لأنفسنا وكيفية إدارة واستثمار مواردنا وطاقاتنا.
شكّل إعلان الاستقلال في حينه، أي خلال دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة عام 1988، جهدا سياسيا وتنظيميا ودعاويا فلسطينيا مكثفا لتتويج الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي انطلقت قبل ذلك بنحو عام، وتسليحها بهدف سياسي واقعي وملموس ومقبول عربيا ودوليا، كان ذلك يعني انخراط منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وبعثاتها الدبوماسية، وعموم الجاليات الفلسطينية في الخارج، في جهد كفاحي وسياسي نوعي جديد يهدف لاستقطاب الدعم الدولي للاتفاضة وأهدافها في الحرية والاستقلال، وهكذا سرعان ما بادرت عشرات الدول للاعتراف بدولة فلسطين باعتبارها حقا مشروعا للشعب الفلسطيني، وتجسيدا لحق تقرير المصير.
ومن المهم لمناسبة الحديث عن إعلان الاستقلال الإشارة إلى الأهمية التاريخية لمضون هذه الوثيقة المتميزة التي صاغها شاعرنا العظيم محمود درويش، ليس فقط بسبب ما عبرت عنه من أهدافها السياسية، بل وكذلك لما شملته من مبادىء حضارية وديمقراطية وإنسانية لدولتنا العتيدة، وسف تحتفظ هذه المبادىء بأهميتها وقيمتها في تنظيم علاقاتنا الداخلية، وحتى في مجال سن القوانين التي تنظم شؤون حياتنا المختلفة.
التطورات اللاحقة جاءت متناقضة، بعضها ساهم في تعزيز الآمال، وأحيانا الأوهام، بقرب الاستقلال الذي بات قاب قوسين او أدنى في نظر بعض المسؤولين. وبعض التطورات ساهم على العكس في جعل تحقيق هذا الهدف أكثر صعوبة من قبل، فاتفاق أوسلو جعل تحقيق الاستقلال رهنا بنتائج العملية السياسية والمفاوضات، أو بمعنى آخر رهنا بموافقة إسرائيل. ولعل أكبر ضربة تلقتها آمال شعبنا في الاستقلال تمثلت في الانقسام ونتائجه، واستمراره حتى الآن دون ان تلوح اي فرصة واقعية لإنهائه، وكل ذلك أظهر أن التناقضات والخلافات الداخلية الفلسطينية الفلسطينية، هي أكثر أهمية لدى بعضنا من تناقضنا كشعب مع من يحتل ارضنا ويصادر حقوقنا الوطنية.
في عهد حكومة الدكتور سلام فياض ( 2007-2013) طرحت خطط لإرساء وبناء مؤسسات الدولة على الأرض وقبل انتزاع الاستقلال السياسي، وأنجزت خطوات عملية ملموسة على هذا الطريق، لكن كل هذه الإنجازات خبت وتبددت مع تراجع مستوى الأداء العام في كافة المجالات، وغياب نهج مراكمة الإنجازات، وسيادة منطق البدء من الصفر في كل مرة.
محطة اخرى مهمة كانت الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة بصفتها دولة غير عضو في الأمم المتحدة، وهو القرار الذي اتخذته الأمم المتحدة في 29/11/2012 ومكّن فلسطين من التقدم لاكتساب عضوية عدد كبير من المنظمات الدولية بينها المحكمة الجنائية الدولية.
ومن الواضح أن إسرائيل عدلت خططها وأهدافها في سياق الصراع المستمر بينها وبين الشعب الفلسطيني، وإذا كان بعض المسؤولين الإسرائيليين اضطروا في السابق للإقرار ولو لفظيا بمبدا قيام الدولة الفلسطينية كما فعل بنيامين نتنياهو ظاهريا في خطاب بار إيلان الشهير عام 2009، لكن استقرار حكم اليمين لأكثر من عشر سنوات، والضعف المستمر للحالة الفلسطينية، والضعف الأكبر في الدعم العربي والدولي للفلسطينيين، وتواطؤ المجتمع الدولي وعجزه عن إلزام إسرائيل بتنفيذ أي من قرارات الأمم المتحدة، وما نفذته إسرائيل طوال السنوات من بناء استيطاني وتهويد للقدس، وتقويض مستمر لحل الدولتين، كل ذلك دفع دولة الاحتلال للمجاهرة بأهدافها التوسعية للسيطرة على أكبر مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والرفض الصريح لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، إلا إذا أسمينا المعازل التي شملتها صفقة القرن دولة.
ربما نظر البعض للاستقلال المنشود باعتباره جزءا من فعل التسوية، وتنازلا عن معظم أراضي فلسطين، لكن التاريخ اثبت أنه ليس كذلك، بل هو هدف عزيز يتطلع له الفلسطينيون أينما كانوا، وهو حتما لن يأتي لا على طبق من فضة، ولا بفعل المناشدات واقتناع العالم بحقوقنا، وإنما من خلال تغيير ملموس لموازين القوى وتعديل الاختلال الفادح فيها لغير صالحنا. فدون الاستقلال تضحيات كثيرة ما زالت مطلوبة، وإجراءات وترتيبات داخلية ملحة، يستحيل أن نتقدم على طريق الاستقلال بغير توفيرها والوفاء باستحقاقتها