لا أعتقد أن أحداً تمكن من فهم «المسألة السورية» دون أن يقرأ كتاب الصحافي الشهير (باتريك سيل) عن سورية، «الصراع على سورية»، وكتابه «الصراع على الشرق الأوسط»، والذي هو في الواقع تأريخ خاص للصراع من وجهة نظر الأسد الأب، وهو حصيلة عشرات المقابلات والجلسات المطوّلة بينه وبين الرئيس الراحل حافظ الأسد.
بالرغم من أن باتريك سيل قد تراجع قليلاً عن السقف العالي لتوقعاته حول الصراع في سورية وعليها، وخصوصاً في مرحلة كانت تبدو أنها مرحلة تهاوي النظام، ورغم أن هذا التراجع قد بلغ به حد الاعتقاد أن ثمة أخطاء تقديرية كبيرة قد وقع بها، وأن نظام الأسد كان «أضعف» مما يظن، أو مما كان يظن... إلاّ أن هذا الصحافي والمؤرخ الفذّ قد وقع في أخطاء تقديرية أكبر حينما ظن، وكان ذلك في العام 2013، 2014 ـ أن سقوط النظام لم يعد مستبعداً بالكامل أو مستحيلاً.
في تلك الأعوام، وكان المرض قد اشتد على هذا المؤرخ والصحافي المميز في متابعة قضايا المنطقة. (وهو بالمناسبة كان صديقاً للشعب الفلسطيني) كان النظام في دمشق يعاني الأمرّين.
كانت تلك الأعوام هي بداية «صلبة» لتحالف دولي وعربي وداخلي ضد النظام، نتج عنها انشقاقات عسكرية خطرة، وتوترات اجتماعية قاتلة، وتكالبت على النظام قوى داخلية وخارجية كان يبدو أن نهايتها لا بد أن تكون وتتوج: إما بسقوط النظام أو رضوخه بالكامل «للشروط» التي طرحت على «خجل» من بعض الأطراف.
استنجد النظام في دمشق بالاتحاد الروسي وبإيران للحفاظ على نفسه، واستطاع أن يستعيد زمام المبادرة من زاوية الدفاع الاستراتيجي، لكي ينتقل إلى الهجوم الاستراتيجي، واستطاع خلال أربع سنوات أو خمس أن «يهزم» داعش والنصرة داخلياً ويحشرهما في زاوية التحالف مع القوى الأميركية والتركية والإسرائيلية أيضاً.
ولعبت روسيا دورا حاسما على الصعيد العسكري، كما لعبت إيران دورا محوريا على الصعيد العسكري، ودورا حاسماً وأساسياً على الصعيد الاقتصادي، خصوصاً أن «المعارضة» السورية وقعت في «أفخاخ» المحاور العربية والغربية، وتشتتت قواها، وتشظت تنظيماتها، وتآكلت إلى حدود التلاشي والاختفاء عن المشهد السياسي مخلية الطريق أمام القوات الأجنبية ومنظمات الإرهاب الأسود.
هنا، وهنا بالذات تحولت المعركة من معركة الحفاظ على النظام والإبقاء عليه إلى معركة أن المحافظة عليه أصبحت تساوي الحفاظ على الدولة السورية، والدفاع عنها.
هنا انتهت المعارضة، وحكمت على نفسها بالموت واشتدت الحرب حتى تحولت المعارك إلى تدمير شامل كان من نتائجها تدمير واحدة من أعرق وأجمل مدن المشرق العربي وهي حلب، وأجزاء كبيرة من الأحياء المحيطة بالعاصمة، إضافة إلى عشرات القرى والبلدات في كل المحافظات السورية.
بحلول العام 2018 حسمت المعارك من الوجهة الاستراتيجية، ولم تعد مسألة «إسقاط» النظام على جدول أعمال أحد، لا عند العرب، ولا عند الغرب، ولم يتبق في «الوادي» سوى بعض الهوامش الإعلامية الخليجية.
فجأة بدأت تختفي عن طاولات البحث: الأسلحة الكيماوية، ومحكمة الجنايات الدولية، وجرى «سحب» مقتل رفيق الحريري من التداول، ولم يتبق في الواقع أي تهديد وجودي للنظام إلى درجة أن إدلب قد تحولت إلى عبء على داعميها أكثر مما هي على الدولة السورية.
صحيح تماماً أن روسيا وإيران قد تمكنتا من منع سقوط النظام في المراحل الحرجة من الحرب، ثم تحولتا إلى تغيير كامل مسار الحرب لمصلحة سورية، لكن الصحيح أيضاً أن الجيش السوري قد دافع عن سورية كما لم يدافع أي جيش في العالم، وصحيح كذلك أن القيادة السورية قد صمدت في ظروف هي أقرب إلى المستحيل.
لكن الأهم من ذلك كله أن سورية قد تم استنفاد كل طاقاتها، وتم تدمير اقتصادها، وتم استنزاف جيشها، وتم أكبر عمليات نزوح عرفتها البشرية في كامل العصور الحديثة.
وحتى في الحرب العالمية الأولى والثانية لم تبلغ أعداد اللاجئين والمشردين من بلد واحد، بل وعدة بلدان ما بلغته هذه الأعداد في سورية، حيث يؤكد بعض الإحصاءات أن عدد اللاجئين السوريين اليوم يربو على العشرة ملايين لاجئ، منهم حوالى خمسة ملايين في تركيا وحدها.
وحصيلة القول هنا إن العالم الغربي، وفي الشهور الأخيرة من حكم ترامب، وكذلك الاتحاد الأوروبي ممثلاً في فرنسا وألمانيا قد شرعوا بمسار جديد يتمثل في جوهره بالتعايش مع الدولة السورية كأمر واقع لا يمكن تجاوزه، ومع وحدة أراضي هذه الدولة، وسيادتها الكاملة اللاحقة على هذه الأراضي، وعلى بقاء النظام السوري على رأس هذه الدولة.
في سورية الحرب انتهت، ولكن المعارك لم تنتهِ بعد، وهزم التحالف الغربي ولكن مشاريع الغرب ما زالت قائمة هناك، وفي سورية تفكك التحالف العربي، ولكن «العداء» ما زال مستحكماً عند البعض منهم، وفقدت تركيا الكثير من نقاط «قوتها» هناك، وسحبت منها الأوراق التي راهنت عليها طويلاً، ولكنها لن تسلم قبل تأمين لجم الأكراد.
باستثناء مصر فإن معظم الدول العربية قد التحقت بالمشروع الغربي، وهي الآن تسرّع الخطى «للعودة» إلى سورية تحت مسمى «استعادة» سورية إلى الصف العربي، والمقصود طبعاً الدول العربية التي انخرطت في هذا الصراع، ومن المحيط السوري المباشر وغير المباشر، باستثناء مصر لأن مصر لم تفقد البوصلة حتى في أحلك ظروف الحرب، ولم تصطف أبداً إلى جانب الأحلاف الغربية والعربية حتى وإن بدا وكأنها جارت أو هادنت قليلاً أو كثيراً أحياناً.
وأجزم أيضاً أن القيادة الفلسطينية لم تفقد البوصلة هي الأخرى. الغرب والعرب بعد أن فشلوا عسكرياً لم يعد أمامهم سوى «القوى الناعمة»، وسوى التعايش مع الواقع الجديد.
ولكن يخطئ من يعتقد أن الغرب وبعض العرب سيتسابقون أو يتهالكون سريعا لأن الذي في ذهن الجميع هو النفوذ الإيراني في سورية، وليس أي شيء آخر في الظروف الراهنة.
نعرف أن العاهل الأردني، وهو الزعيم العربي والإسلامي الأول الذي قابل الرئيس بايدن قد طرح أهمية وضرورة «استعادة» سورية إلى الحاضنة العربية لأسباب قومية عربية، ولأسباب أردنية خالصة.
ونعرف أن وفداً مخابراتياً سعودياً قد زار دمشق في بداية هذا الصيف، ونعرف، الآن، أن الرئيس الأسد استقبل وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة في دمشق بصورة علنية وإعلامية لا غموض فيها، ونعرف الكثير، الآن، عن اتصالات مباشرة بين سورية ودول عربية أخرى.
يراهن الغرب والعرب على «تقليم» أظافر في سورية، وليس لدى موسكو تحفظات كبيرة على هذا الأمر. وهذا ما يفسر موافقة موسكو على الضربات الإسرائيلية «للتواجد الإيراني الخطر» في سورية، لأن موسكو تشعر بأن إيران تنافس وجودها في سورية، وهي (أي موسكو) لا ترغب بمزيد من التبعية السورية لإيران، وربما ليس بودها أن ترى «حزب الله» الجديد في سورية.
ولهذا فإن المعادلة الجديدة في سورية هي أن الغرب والعرب وحتى روسيا متفقون جميعهم على وحدة الأراضي السورية كاملة، وعلى بقاء النظام السوري على رأس الدولة السورية حتى بعد «المصالحات الوطنية المطلوبة»، وحتى مع عودة بضعة ملايين من اللاجئين شريطة أن يتم «تقليص» النفوذ الإيراني هناك، وشريطة تقنين العلاقات السورية الإيرانية، ووضعها تحت المجهر السياسي لهذه المعادلة. وحتى إسرائيل نفسها فإنها ستعتبر الوصول إلى معادلة كهذه هو بمثابة (انتصار خاص لها)!
لا أعرف إذا ما كان قد قاله «باتريك سيل» حول إن دمشق هي مفتاح السلام الإقليمي قد أخذ عن كيسنجر، أم أن كيسنجر قد أخذ عن سيل حول أن العرب لا يمكنهم أن يحاربوا دون مصر، ولا يمكنهم أن يقيموا السلام دون سورية.
لكن الذي نعرفه جيداً اليوم أنه دون دمشق لا سلام في هذا الإقليم، ودون فلسطين لا أمن، ولا استقرار لأحد، ناهيكم عن السلام نفسه.