بقلم: وليد العوض

في ذكرى إعلان وثيقة الاستقلال.. الوطن الذي نريد

وليد العوض معتمد
حجم الخط

غزة - وكالة خبر

في الخامس عشر من نوفمبر هذا العام يحيي شعبنا الفلسطيني في كل مكان مناسبة الإعلان عن وثيقة  الاستقلال، يوم أن وقف الرئيس الراحل الشهيد أبو عمار بشموخ على منصة المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثامنة عشر عام ١٩٨٨ في قاعة قصر الصنوبر في الجزائر، معلناً بصوته الجهوري وكلماته الهادرة ( باسم الله، وباسم الشعب العربي الفلسطيني نعلن قيام دولة فلسطين) وما أن انتهى الرئيس من  إعلان وثيقة الاستقلال تلك حتى غمرت الفرحة قلوب أبناء شعبنا الفلسطيني فزغردت النساء وطير الاطفال طائراتهم الورقية فرحاً كما طافت المسيرات والمظاهرات واتسعت دائرة المواجهات مع الاحتلال تعبيراً عن فرحة شعبنا وتوقه للاستقلال، وفي نفس الوقت توالت دول العالم تباعا تعترف بدولة فلسطين وفي حق شعبها في الحرية والاستقلال .

وثيقة الاستقلال التي نحتفل بإعلانها اليوم ليست كما يعتقد البعض لم تكن مجرد حبر على ورق، فقد كتبت حروفها من دم وعرق وعذابات وتضحيات بذلت في ميادين الكفاح الوطني، نسجت حروفها دموع الثكالى وعذابات الاسرى وانين الجرحى وحفرتها على الصخور بطولات الثوار في ميادين الكفاح الذي لم يتوقف، وصاغت كلماتها بمنتهى الدقة الادبية والعمق السياسي ايدي الشاعر الشهيد محمود درويش فجاءت كلوحة بانورامية متكاملة تعكس معاناة شعبنا وكفاحه نحو العودة والحرية والاستقلال، جاءت لتؤكد عزيمة لا تخبوا وايماناً لم يتزعزع بحقوق شعبنا وعدالة قضيته، فكانت قوية متماسكة صادقة من حيث قوة المنطق ووضوح الكلمات وترابط العبارات وبلاغة المعاني التي عبر عنها الرئيس أبو عمار وهو ينطق كل حرف من حروفها بدلالات ذات معنى.

 هذه الأيام وبعد مضي كل تلك السنوات على إعلان هذه الوثيقة نجد أنفسنا  ليس فقط بحاجة الى كل كلمة من كلماتها بل وبحاجة لكل الذين ساهموا بصياغتها بأي شكل من الأشكال وقد غيبهم الموت عنا دون أن تكتحل عيونهم برؤية الحلم يتحقق، نحتاجها ونحتاجهم اليوم  بعد أن مزقنا الانقسام وضاق الوطن بأصحابه فغدا وكأنه سجن كبير يبحث شبابه عن وسيلة للهجرة فنجدهم يموتون غرقاً في البحار او جوعاً في الوديان والجبال، يهربون من وطن يقف لم يعد جاذباً لأبنائه وهم يشعرون بضيق الحال وانعدام الاستقرار وفقدان الامل في دولة ليست كما خطتها وثيقة الاستقلال، بل أضحت كما السجن الذي يقف على أبوابه سجان من بني جلدتنا يسجل في عداده الخاص عدد ضحكاتنا ولا يتردد في منعنا من الابتسام لو تمكن، يهربون من وطن بات من يتحكمون به يسلبون من العامة رغيف الخبز ويعطونهم كسرة منه ويطلبون منهم الشكر على كرمهم هذا .

اليوم نحن كلنا نحتاج لوثيقة الاستقلال ومضامينها الإنسانية ليس فقط لتجسيدها على الأرض التي يبتلعها العدوان والاستيطان، بل لما تضمنته من معان إنسانية نبيلة نفتقدها اليوم، نبحث عنها في الحلم الذي أضحى كابوسا، نبحث عن الكرامة في وطن طالما حلمنا به وضحينا لأجله وهمسنا بآذان اطفالنا أنه الوطن الذي نستحقه وليس الوطن الذي ينسحب منه مواطنيه ويحوله  السماسرة الى كابوس رهيب ،

ونحن نحيي ذكرى وثيقة اعلان الاستقلال وتتنقل بين سطورها نقلب كلماتها ونستذكر كل الذين ساهموا في الوصول اليها وصياغة كلماتها، نقول لكل الذين يحاولون سرقة الوطن والحلم الجميل ، اننا سنكافح من اجل الوطن الذي نحب ولن نرحل عنه وسنبقى نحلم بهذا الوطن الذي نريد ولن يصادروا احلامنا  واحلام ابناءنا في وطن حر لشعب سعيد، نحتاج لوثيقة الاستقلال ومضامينها وهي التي رسخت في أذهاننا أي دولة نريد وحددتها بوضوح لا غضاضة فيها (إن دولة فلسطين هي دولة للفلسطينيين أينما وجدوا فيها يطورون هويتم الوطنية والثقافية ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، تصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي وحرية وتكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية لقرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو بين المرأة والرجل)  العبارات اعلاه رسمت الصورة الحقيقة للوطن الذي نستحق ونريد وسنعمل لأجله مهما كلفنا ذلك من ثمن، إنه ليس وطن الازقة والزواريب ومراكز القوى والنفوذ وتقاسم سلطات الحكم مع رأس المال، انه الوطن الذي تحترم فيه الحقوق وتصان فيه الحريات، وليس الذي تمتهن فيه كرامة الناس وتدوس بساطير العسس على كل القيم الانسانية النبيلة التي يمتاز بها شعبنا، انه ليس الوطن حيث تغتال فيه الديمقراطية وتكمم فيه الافواه وتصادر فيه حرية الرأي والتعبير  ويتربع فيه اصحاب الانقسام على صدور الشعب يمتصون دمه ويدفعون خيرة الشباب فيه للهجرة بحثاً عن الأمان، يا سادة ليس هذا هو الوطن الذي رسمت معالمه وثيقة الاستقلال وناضل شعبنا لأجله وما زال مستمراً بعناد لتحقيقه .

وثيقة الاستقلال التي نحتفل بإعلانها هذه الايام رسمت لنا معالم الوطن الذي نريد كما اشرت، وجاءت منسجمة ومتناغمة في حينه مع الانتفاضة الجماهيرية الباسلة التي كانت في أوجها والهبت بعنفوانها شوارع كل قرية ومدينة ومخيم في الاراضي الفلسطينية المحتلة وقدمتها يومها عشرات الشهداء وفي مقدمتهم شهيد يوم الاستقلال الرفيق صبري عرندس في مخيم خان يونس ، كما واستجابت لما اراده شعبنا المنتفض من تأكيد لا لبس فيه على تمسك  شعبنا بحقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وحق اللاجئين بعودتهم إلى ديارهم، كما أكدت للقاصي والداني أن شعبنا مصمم بعزيمة لا تلين على استعادة حقوقه، والى جانب ذلك فإن وثيقة الاستقلال تلك عبرت عن حنكة سياسية بارعة في تعاملها مع قرارات الشرعية الدولية مما اكسبها قوة دعم هائلة فتحت الآفاق بقوة لوقوف العديد من شعوب ودول العالم إلى جانب حقوق شعبنا وقضيته العادلة وفرضت العزلة على حكومة الاحتلال على الصعيد الدولي، إن تلك قوة الدفع الهائلة التي انبثقت عن الانتفاضة الجماهيرية العارمة الى جانب وثيقة الاستقلال وما فتحته من آفاق على الصعيد الدولي  كان يمكن أن  توظف في حينه بشكل أفضل لتحويل الإعلان إلى حقيقة واقعة على الارض، وهو ما لم يعمل به بكل الاسف فخبت تدريجيا قوة هذا الإعلان وفي ظلال هذا الوضع البائس أخذ  بالتحول تدريجيا إلى مجرد إعلان يتم الاحتفال به سنويا حسبما درجت العادة الى أن بات مجرد ذكرى يجري احيائها على خجل في غالب الاحيان .

اليوم تمر الذكرى الثالثة والثلاثين لإعلان الاستقلال، ومياه كثيرة جرت في النهر وعقبات عديدة ومؤامرات عدة تتعرض لها قضيتنا الوطنية سواء باستحضار مضمون صفقة ترامب والسلام الاقتصادي وتحويل الانقسام لانفصال وزيادة العدوان والاستيطان، مؤامرات لم تتوقف وما زالت تعترض طريق شعبنا وتحول دون تحقيق حلمه بإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، لكن بالرغم من كل ذلك ما زلنا نعتقد إن القوة في هذا الإعلان ما زالت كامنة خاصة بعد أن جددت أكثر من ١٤٠  دولة في العالم الاعتراف بدولة فلسطين بموجب القرار ١٩/٦٧ لعام ٢٠٢١ واصبحت فلسطين دولة مراقبة في الأمم المتحدة ورفرف علمها بين الدول كما انضمت الى مئات المنظمات الدولية بموجب ذلك، اليوم وبعد كل هذه التطورات بات على  القيادة الفلسطينية إعادة النظر في الاستراتيجية السياسية  الفلسطينية من مختلف النواحي وفي مقدمتها تنفيذ قرارات المجلس المركزي والوطني و تصعيد المقاومة الشعبية وتعميم نماذجها الناجحة.  والعمل الجاد على ترتيب البيت الفلسطيني، واستعادة منظمة التحرير لدورها ومكانتها والتفكير الجدي لتشكيل المجلس التأسيسي لدولة فلسطين والذهاب بكل مسئولية وحرص الفلسطيني لإنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة وطنية توحد المؤسسات وتحضر للانتخابات، بهذا وحده يمكن اغلاق الثغرة التي يمثلها الانقسام وغدت جسراً واسعاً لعبور كل المؤامرات التي تستهدف شعبنا وقضيتنا وكرامتنا الإنسانية.