يمرّ الإنسان خلال حياته بعدّة عقبات وتحديات، فإما أنّ يتعثّر بها ويسقط، أو يتجاوزها ويتّخذّ منها نقطة انطلاق لإنجاز جديد يُضيفه إلى سلسلة نجاحاته.
وفي بعض الأحيان، تصل التحديات إلى مرحلة قد يظنّ فيها المرء أنّها نهاية الطريق، ويفقد أمله في تجاوزها، ولكن عندما يتحلى بالصبر بقدر مناسب يتخطّاها، كما فعل الشاب محمد رشيد أبو عاصي، صاحب الهمّة العالية، وذا الإيمان القوي.
تحديات محمد
الشاب أبو عاصي، من ذوي الإعاقة البصرية، استطاع بعزيمته، تحقيق طموحاته التي كان يحلم بها منذ صغره، وقبل أنّ يفقد نعمة البصر، ليقف اليوم مع أقرانه الأصحاء على منصة التخرّج، ويحصد شهادة البكالوريوس من كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية في قطاع غزة.
وفي حديثٍ خاص بوكالة "خبر"، مع الخريج محمد أبو عاصي، 23 سنة، من حي الزيتون شرق مدينة غزة، وصف حياته قبل أنّ يفقد بصره، بأنّها "حياة طبيعية عادية، كأي طفل آخر، ولكن بعد فقدان البصر أصبحت حياة أخرى تمامًا".
عاني أبو عاصي، من فقدان البصر إثر تعرضه لحادثة عرضية عندما كان يبلغ من العمر 11 عامًا، ثمّ استعاد بصره بعد عام، عقب خضوعه لعدّة عمليات تكلّلت بالنجاح.
وعند بلوغه 13 عامًا، فقد أبو عاصي بصره بشكل نهائي، كما حّلت على أسرته في ذات العام، مصيبة أُخرى تسببت بالألم والوجع لهم، تمثّلت بفقدانه والدته إثر إصابتها بداء التهاب السحايا، ورغم هذه المصائب ظلّ متيقّنًا بأنّ "القادم أفضل مما مضى".
"الإعاقة طاقة"
وحول شعوره الذي تملّكه وقتها، ذكر لمرسل وكالة "خبر"، أنّه لم ييأس ولم يفقد عزيمته عقب فقدانه للبصر، وأنّ "هذا أمر الله"، وتذكّر قول رسول الله: "عجبًا لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير"، وقوله تعالى في الحديث القدسي: " إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة"، ويُقصد بـ"حبيبتيه" عينيه، وأما فقدان والدته فقد كان أمرًا صعبًا ومفاجئًا.
وعقب وفاة والدته، تلّقى هو واخوته الخمسة، الرعاية من عمته وخالته -زوجة عمه وأخت والدته- اللتان تقطنان في نفس المبنى السكني، كما يُرجع صبره في هذه الظروف، إلى أنّه تربّى في أسرة متدينة، الأمر الذي جعل إيمانه بالله أقوى.
وفي مقارنة بين وجود البصر وعدمه، قال: "إنّ فقدان البصر أفصل بالنسبة لي، ليس استخفافاً بالنعمة، ولكن لأنّ فقدان البصر أعطاه طاقة للوصول إلى ما هو عليه اليوم، وكان سببًا في تميّزه، وسعيه لطموحات، وعدم وقوعه في اليأس".
وأضاف: "إنّ الناس يظّنون أن الكفيف يرى شاشة سوداء، بل نحن نتخيل ببصيرة الرؤيا الموجود في قلوبنا"، فالبصيرة وفقًا لتعبيره نوعان، الأولى: الهداية ويُقصد بها التمييز بين الحق والباطل، والثانية بصيرة الرؤيا والتي يُميّز بها الأشياء، "ترى بعينك فتميز بقلبك، تسمع بأذنك فتمير بقلبك، فالبصيرة تبقى حاضرة تسد عن البصر".
تحقيق طموحاته
كما يتمّز أبو عاصي، بعدّة مواهب، ذكر منها: الإنشاد، وقراءة القرآن، والخطابة، وإلقاء الشعر، والتمثيل، والإعلام، طوّرها من خلال اهتمامه بها، والتحاقه بعدّة دورات مساعدة.
وحول حفظه للقرآن الكريم، لفت إلى أنّه بدء في حفظ كتاب الله منذ الصف الأول الإعدادي، ولا زال حريصًا على تثبيته، وفي تلاوة القرآن وتجويده، حصد شهادة تأهيل السند خلال عام واحد,
ويعمل أبو عاصي، داعية إسلامي، فهو إمام في المسجد، ويعطي دروس إيمانية، ويخطب بالناس في صلاة الجمعة، كما حصل على المركز الأول في العديد من مسابقات الخطابة المُقامة على مستوى حي الزيتون، حيث يقطن.
وشارك أيضًا في العديد من الفعاليات المختلفة، في مجال مواهبه، سواء أكانت داخل المساجد أو خارجها، وأقام العديد من الملتقيات الدعوية، وفقًا لقول أبو عاصي، فهو قد حقق طموحاته التي كان يتمنّاها، وهي أنّ يكون داعية، إمام بالناس في الصلاة، وإنهاء دراسة البكالوريوس في علوم الدين، وهو الآن طالب في برنامج الماجستير بتخصص العقيدة، في الجامعة الإسلامية.
ظّل أبو عاصي متمسّكًا بعدّة شعارات طوال حياته، يُحفّز بها نفسه، وهي: "لا إعاقة في وجود الإبداع"، و"الإعاقة طاقة"، ومتيقّنًا بقوله: إنّه "إذا أردت أنّ تحقق طموحك، فعليك أنّ تضع الأمل في نصب عليك".
موائمة المجتمع
وفي حديثه مع مراسل وكالة "خبر"، تحدّث أبو عاصي، نيابة عن أصدقائه وزملائه من ذوي الاحتياجات الخاصة، بأنّهم بحاجة إلى تعبيد الشوارع القريبة من منازلهم، وموائمتها بما يتناسب حاجتهم.
وفيما يخصّ فرص العمل، فأكّد أنّهم كغيرهم من المواطنين لهم الحق في ذلك، دون أي تمييز أو تفريق، مضيفًا بقوله: "فنحن لدينا قدرة ومواهب كبيرة".
وتوجّه في ختام حديثه برسالة إلى زملائه من ذوي الإعاقة، قال فيها: "لا تقفوا مكانكم، وأينما وجدتم أنفسكم ضعوا أنفسكم، واصنعوا لهذا المجتمع شيئًا يجعل لكم أثرًا طبيًا".