اشتاق الكثير من قدماء «الموساد» في الاسابيع الاخيرة الى الفترات التي كانت فيها شؤون «الموساد» تتم بسرية. المنافسة العلنية على رئاسة الجهاز، والتي تبدو احيانا مثل المنافسات التلفزيونية، وصلت ذروتها في البلاغ المتأخر ببث حي حول الفائز، الامر الذي دفعهم الى التحرك بدون راحة والتساؤل اذا ما حدث شرخ في موضوع السرية ولا يمكن اعادة اصلاحه.
الجواب البسيط هو أن الايام ستجيب على ذلك. والجواب الاكثر تعقيدا هو أن «الموساد» ورجاله سيضطرون الى ملاءمة أنفسهم مع الواقع القائم، بايجابياته وسلبياته.
يوجد الكثير من الايجابيات في العمل حين يكون التنظيم مغلقا أمام الانتقادات الخارجية التي تلزمه بالحفاظ على معايير مهنية وقيم عالية. من المشكوك فيه أن تكون وسائل الاعلام جزءاً من هذه العملية حينما يكون التنظيم سريا، حيث إن كل اعماله تتم خلافا للقانون. يرافق هذا التوتر بين العلني والسري دائما أعمال «الموساد».
ولا يعرف أحد من الجمهور ما هي الاعمال التي نفذها التنظيم باستثناء تلك التي يُقتل فيها أحد ما أو يتفجر شيء أو عند حدوث خلل. من هنا فان حكم الجمهور حول ماذا ومن نجح، ومن نجح أقل، حيث توجد هنا سطحية حتى لو كان ما ينشر هو طرف جبل الجليد فقط لما يحدث في الواقع. سيد اسرائيل يريد رؤية جنرالاته مثل جيمس بوند: يقتلون السيئين ويتملصون. أعطوه رئيس «موساد» – «شاباك» – رئيس هيئة اركان كهذا وهو سيؤدي التحية لهم الى الأبد.
لا توجد له القدرة على الحكم على الصورة الكاملة للعمليات الاستخبارية والدبلوماسية في عالم تكنولوجي مركب يتطلب عملا في الحاضر واستثمارا في المستقبل. وهناك ايضا الملكات المطلوبة من اجل العمل بنجاح. الوحيد الذي يحظى بصورة كهذه هو رئيس الحكومة – قائد «الموساد» – الذي من المشكوك فيه أن لديه الوقت لادارة التنظيم فعليا.
والتي يفترض أن تساعده في ذلك هي اللجنة الثانوية للخدمات السرية في لجنة الخارجية والامن في الكنيست، التي تطلع على التفاصيل، لكنها لا تملك الصلاحيات والاسنان. أما الباقي (حكومة وكابنيت) فخارج اللعبة. حول الشفافية من النوع الاميركي والاستجواب العلني للمرشحين من النوع الذي مر به، هذا الاسبوع، نتنياهو في الكنيست حول موضوع الغاز، لا مجال للحديث أبدا. في ظل هذا الوضع، يتحول النقاش الى شعارات.
من بين الالقاب التي منحت للمرشحين – «عارض الازياء» (يوسي كوهين)، «الكيبوتسي» (رامي بن براك) و»المظلي» (ن. نائب رئيس «الشاباك» السابق) – حول ملاءمتهم وقدرتهم على ادارة التنظيم، والى أي حد كان من شاركوا في الاسابيع الاخيرة في الجدالات والنقاشات حول المرشح المناسب من بين الثلاثة، مطلعين على التفاصيل، أم أنهم رددوا شائعات غير دقيقة سمعوها من الآخرين.
انحطاط النقاش مقلق، لأنه يبحث عن الآن وهنا – الفائز، الخاسر، العنوان – أكثر من الاجراءات المهنية الملائمة وبعيدة المدى. لأن الامر كذلك فانه يدفع المرشحين ليكونوا كذلك: بشكل منفصل عن طابعهم ومعاكس لكل ما هو مطلوب لتنظيم أمني خصوصا تنظيم أمني سري قد يكون الكشف عن عملياته أو رجاله هو الفرق بين النجاح والفشل، بين الحياة والموت. مخادع وجريء التفكير لدى يوسي كوهين جميع الامكانيات التي تجعل منه رئيس «موساد» جيدا.
إنه متميز وذكي ويعرف الجهاز ويعرف العالم الذي خارجه، هو صغير السن نسبيا وجائع بما فيه الكفاية. وهو يحظى ايضا بعلاقة حميمية مع بنيامين نتنياهو. هذه الافضلية تشكل خطرا ايضا: من يُشغله ليس رئيس الحكومة بل شعب اسرائيل، من خلال رئيس الحكومة.
في هذا التوسط يمكن أن يحظى رئيس «الموساد» بمساحة ليونة كافية ليقرر ماذا هو ومن هو. مائير دغان – رئيس مركز الانتخابات لاريئيل شارون الذي تم تعيينه من قبله ليكون رئيس «الموساد» – وضع لنفسه خط نشاط مستقلا، واحيانا مناقضا لخط شارون.
تمير فردو – ضابط الصلة ليوني نتنياهو في عنتيبة، الذي تم تعيينه من قبل أخيه لرئاسة «الموساد» – اختار هو ايضا الخط الذي تسبب احيانا بالصدام مع نتنياهو. في الحالتين تم الامر في حدود الملعب وكجزء من الرسمية: يعملون لدى رئيس الحكومة، لكن ليس من اجله. سيضطر كوهين الى الاختيار قريبا من هو وماذا يريد. لن يضطر الى وقت من اجل التعلم لأنه لم يأت من الخارج مثل دغان. فهو يعرف «الموساد» جيدا ويعرف طبيعة عمله وخططه ورجاله.
هو بحاجة ليقرر فقط أن ينفذ: من الناحية التنفيذية والتنظيمية والشخصية. الجزء الاول التنفيذي هو الاساس، وجوهر عمل «الموساد». كوهين يملك الأوسمة المبررة بسبب قدرته كمُشغل في قسم «المفترق»: مبدع، مخادع، جريء في التفكير والعمل. الآن سيُطلب منه أن يأخذ هذه القدرات الى اماكن غير معروفة بالنسبة له، فرئيس القسم أو نائب رئيس الجهاز ليس مثل الرئيس نفسه – المسؤولية المباشرة عن كل عملية وعن مئات الاشخاص الموجودين في كل لحظة في عملية معينة في أرجاء العالم. هذه المعلومة وحدها ردعت في السابق رؤساء «موساد» عن العمل، وآخرون ازدهروا بفضلها. كوهين، الذي يعمل تحت رئيس الحكومة الحذر من المخاطر، سيضطر الى النظر الى رجال العمليات التابعين له في عيونهم، ويتخذ القرار.
في المقابل، يجب أن يقرر خط العمل. النصف الثاني من فترة دغان وفترة فردو كلها ركزت على المشروع النووي الايراني. كانت هذه مهمة الحياة بالنسبة لـ»لموساد». يمكن ملء صفحات كاملة حول ما اذا نجح الجهاز أو فشل: حكمة الجموع تميل بشكل طبيعي باتجاه الفشل. فرغم كل الجهود استطاعت ايران الاقتراب من الحد النووي. تميل الحقيقة لكفة الايجاب: كل دولة قررت وضع امكانياتها من اجل تحقيق السلاح النووي حققت ذلك خلال عشر سنوات.
وبدأت ايران تهتم بالسلاح النووي منذ 1984 في ذروة حربها مع العراق. ومنذ ذلك الحين مرت 30 سنة وما زال السلاح النووي غير موجود لديها. ليس كل شيء مرتبطا باسرائيل وبمسؤوليتها. ومع ذلك – اذا ربطنا الافعال التي نسبت إليها (قتل العلماء وتفجير الطائرات واعمال سايبر اخرى)، اضافة الى العقوبات الدولية التي بادرت إليها اسرائيل، فان النتيجة لن تكون سيئة.
إلا أن كل هذا ليس من الماضي، سيكون على «الموساد» الاستمرار في متابعة ايران للتأكد من أنها لا تعمل سرا لتطوير السلاح النووي وايضا من اجل متابعة عمليات التمويل والتدريب للارهاب في الشرق الاوسط، لكن في ظل الاتفاق مع القوى العظمى أعطيت لـ»الموساد» فرصة للاهتمام بأعمال وشؤون اخرى وعلى رأسها الاسلام المتطرف – «داعش» و»القاعدة» – والمخاطر والفرص التي تنتصب أمام اسرائيل.
أيد فردو في منتصف ولايته هذا التغيير في الاتجاه مثل زملائه في الاجهزة الامنية (رئيس هيئة الاركان ورؤساء «الشاباك» والاستخبارات العسكرية). إنه يعتبر الموضوع الفلسطيني المشكلة الاساسية لاسرائيل، وبالتالي فهي المفتاح للتهدئة أو لتحسين مكانة اسرائيل في المنطقة. الالتقاء الممكن والخطير بين الموضوع الفلسطيني (الداخلي) وبين الارهاب الراديكالي، سيحول الموضوع الى مُلح أكثر في ولاية كوهين. على الجدول: تحالفات اقليمية ودولية أو الامتناع عنها، الامر الذي سيحول اسرائيل الى معزولة أكثر فأكثر، والى حد كبير سيكون هذا هو السؤال أمام كوهين كرئيس لـ»الموساد»، والاهم أكثر من عدد جماجم «المخربين» التي ستكون على حزامه.
القسم الثاني التنظيمي، وهذا سيتطلب من كوهين اتخاذ قرارات فورية مثل التعليمات، والابقاء أو عدم الابقاء على البنية التي شكلها فردو، والاستخبارات والتكنولوجيا التي تم تشكيلها. يستطيع رئيس «الموساد» أن يمنح جميع مصادره ووقته ورجاله للامر الفوري، للعمليات؛ في عالم الاستخبارات الشرق اوسطي هذا الامر مبرر دائما.
استثمر فردو في المستقبل على المدى البعيد أكثر من أي واحد من أسلافه، ويدعي منتقدوه أن هذا ينبع من التردد، أما مؤيدوه فيقولون أنه نابع من المسؤولية. النقاش حول هذا الامر لا حاجة له. الحقيقة هي أن «الموساد» ازداد عدد رجاله في السنوات الخمس الاخيرة، وازدادت الميزانيات والعمليات وحدثت قفزة باتجاه عالم التكنولوجيا. وهذا يستوجب تغييرا تنظيميا وتفكيريا وعملياتيا، لكن فتح بوابة لعالم جديد من الاحتمالات، بعضها موضوعي وبعضها نتيجة التعاون داخل الاجهزة الاستخبارية، ولاسيما الاستخبارات العسكرية واحيانا «الشاباك» أو منظمات موازية في العالم. هذا البُعد الدولي مهم ايضا في سياق آخر: في ظل العلاقات الرسمية السيئة مع كثير من الدول وعدم وجود علاقات مع اخرى، يعتبر «الموساد» مثل وزارة الخارجية لاسرائيل في اجزاء كبيرة من العالم.
القسم الثالث الشخصي. سيعكس كوهين نفسه على كل الجهاز. قدماء «الموساد» يقولون إنه اذا تم الكشف عن عملية فليس مهما اذا كانت نجحت أو فشلت – فانها فاشلة. المنطق واضح: نحن تنظيم سري واعمالنا سرية ورجالنا سريون. جميع رؤساء «الموساد» في الماضي أيدوا هذه النظرة، والاستثناء الوحيد كان دغان. ففي نهاية ولايته اعتاد على وسائل الاعلام التي اعتبرته رجل العام.
أما باقي الالقاب فهي غير مهمة. لقب «عارض الازياء» سيطارد كوهين طول الوقت. وسيضطر الى أن يثبت أنه كل شيء، وليس هذا فقط. اذا تجاوز، واذا بحث عن المجد الشخصي فسيفشل، والاخطر من ذلك فان رجاله سيبحثون عن المجد والنشر. ليس من السهل فعل ذلك في المرحلة الاعلامية في أيامنا، لكن هذا ضروري لكوهين ولـ»الموساد».
من سيختار غير ذلك سيكتشف سريعا أن مجد العمليات يزول بسرعة بسبب فشل بسيط. بعد تعيينه فورا قال كوهين إنه يلتزم بأن «ينفذ اعمالا جيدة لاسرائيل»، والشبكة الاجتماعية كانت صاخبة بالردود: هناك من تساءل اذا كان ينافس رامي ليفي. هذه الجملة التي ستدخل الى الفلوكلور جاءت تحت الانفعال من التعيين، لكن من الاجدر أن يبتعد كوهين بسرعة عن طريقة التفكير هذه: العمليات التي سينفذها لن تخضع لحكم الجمهور وتصويته، وأصلا لن يتم تقييمه من قبل شعب اسرائيل بل من قبل رئيس الحكومة والحكومة. مهمته هي ليس انتاج عمليات بل جلب الهدوء من حوله ومن حول الجهاز، وبالذات الهدوء لدولة اسرائيل من التهديدات التي تحيط بها. فردو الذي لم يرغب بأن يكون كوهين وريثه، قال عنه وبحق إنه مناسب وإن لديه جميع المقومات لقيادة «الموساد» بنجاح. في الطريق الى هناك سيضطر الى الانفصال عن معانقيه الكثيرين من السياسيين ممن مروا بالمؤسسة الدينية التي تعتبره رسولها وحتى رجال الاعمال الذين يريدون البقاء بالتأكيد في ظل المجد والسرية، لكنهم قد يعيبون على فرص نجاحه، أي على أمننا.
عن «إسرائيل اليوم»