هموم ما بعد الأربعين

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

حين كنا أطفالاً كنا نعتبر من هم في الأربعين من أعمارهم «ختيارية»، تفصلنا عنهم هوة زمنية سحيقة، ولا نفكر ولا حتى نحاول أن نتخيل أننا سنصل تلك الأعمار ذات يوم.. من هم في الستينيات والسبعينيات يرون الأربعينيين «شباباً»، ويتمنون لو بوسعهم الرجوع إلى تلك الفترة. على أي حال الأربعون هي سن النبوة والحكمة، وفي اللغة سن الكهولة (وليس الشيخوخة)، وتوصيات الأمم المتحدة تعتبر أن الشباب يمتد حتى سن الـ65.
في مجتمعاتنا، من النادر أن يستهل شخص ما عقده الخامس دون مرض ما (ضغط، سكري، كولسترول، آلام في الظهر...)، ربما بسبب أنماط حياتنا غير الصحية، أو بسبب الكبت والمعاناة والتعب والأحزان، أو بسبب الثقافة الشعبية السائدة التي لا تحفل كثيراً بالنصائح الطبية.. تلك أولى هموم الأربعينيين.. وهناك المزيد بالطبع.  
في تلك المرحلة تبدأ الصحة بالتراجع، تدريجياً، سيترهل الجسد قليلاً، وستطل مقدمة الكرش، إلى أن تبدأ الانهيارات الدراماتيكية، وحتى ذلك الوقت يتعامل الجسد مع نفسه بوحي من ذكريات الشباب المخبأة في جيناته، فينكر ما يراه في المرآة لأنه اعتاد على المظهر نفسه، ويستنكر ما يقوله عنه الآخرون، سيما من غاب عنهم طويلاً. المكابرة هنا مفيدة، فهي إصرار على العيش بروح الشباب.
ولكن أحياناً، يخذل الجسد صاحبه تحت وطأة مرض عضال، فتبدأ رحلة المعاناة مع الآلام والأوجاع، سينزعج المريض من كيس الأدوية، ومواقيتها، وسيحزن على حرمانه من الأغذية الشهية التي صار مجبراً على تجنبها بسبب الحمية، وقد يكتئب بسبب التغير في أنماط حياته، ولأنه فقد حيويته، ولم يعد بوسعه السهر مع رفاقه في المقهى، أو الركض في الحقول، أو زراعة شجرة، أو حتى تصليح عوامة خزان المياه. ستحزنه نظرات الإشفاق، كما الإهمال، وأنه صار عالة على غيره، وأنَّ من هم حوله لا يفهمونه، ولا يحسّون بألمه، سترعبه صورة المستقبل. سيؤلمه موت أحلامه السابقة التي صارت مستحيلة، وسيصير كل همه أن ينام.
هموم السيدات من نوع آخر؛ من فاتها الزواج ستعاني الوحدة، والخوف من المستقبل، وعذابات الشعور بأن مشوار العمر على وشك الانتهاء، مع خفوت الأمل بالعثور على شريك. أما المتزوجات، ففي ذلك السن وبعد انقطاع الطمث، «ستتخربط» منظومتهن الهرمونية، وقد تعاني بعضهن من هبّات حرارية تحيل حياتهن إلى جحيم، أما تداعيات الحمل والولادة والإرضاع وتربية الأبناء ورعاية الأسرة فستبدأ بالظهور. ستغضب المرأة إذا لم يقدر شريكها أن ما يراه من وهنٍ أصابها هي الضريبة التي دفعتها من أجل أسرتها، وقدمت فيها أحلى سنين عمرها. لذا ستهتم أكثر بكل ما يؤخر شيخوختها، وما يمنع التجاعيد، وما يخفي الشيب، وما يشد جسدها. تحب أن تظل مرغوبة، سيسرها قول «درويش»: سَيِّدَةٌ تترُكُ الأَرْبَعِينَ بِكامِلِ مشْمِشِهَا»، أي بكل أناقتها ونضارتها.
بعد الأربعين سيدرك الآباء أن أطفالهم كبروا، وصارت لهم حيواتهم المستقلة، وأنهم لم يعودوا بحاجة لنصائحهم وتوجيهاتهم (قد ينصتون إليهم من باب المجاملة)، لكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنهم فقدوا السيطرة عليهم، فتنشأ مع أبنائهم علاقة ندية يشوبها التوتر. أما الأمهات فيصبحن صديقات لبناتهن، وسيفرحن بمشيهن معاً، خاصة إذا سألهن أحدهم: أهذه أختك؟
في تلك المرحلة تتضارب مشاعر الفرح (بأن الأولاد كبروا) مع مشاعر الحزن (لأن تقدمهم في السن يعني دفعهم نحو حافة العمر)، وسيبلغ تضارب المشاعر ذروته حين تتزوج البنت الأولى، الفرحة بأنها صارت عروساً، والحزن على فراقها.
غالباً يصل المرء الأربعين وقد فقد والديه أو أحدهم، وفقدَ أصدقاء وأقارب يحبهم، وعاش بينهم زمناً طويلاً، ثم فرقهم الموت أو السفر، البعض تأكله مشاعر الشوق والحنين لهم، وللأيام الخوالي، والبعض يعتاد الغياب، ويمضي في حياته، لكن المرأة لا تنسَ أمها الراحلة مهما طال الزمن.
بعض الأزواج يتولد لديهم شعور بعدم الانسجام الزوجي والجنسي فيما بينهم، مع جفاف عاطفي، إما نتيجة ضغوط الحياة وكثرة الطلبات والمسؤوليات، أو بسبب تحوّل الزواج إلى نظام ممل من الروتين والرتابة، أو بسبب اضمحلال هرمونات الحب. تشعر الزوجة بمرور السنين وآثارها على جسدها، فتصبح متطلبة، أو تنطوي على ذاتها كاتمة همومها، وآخذة معها أحلامها. أما الزوج فتنال منه مشاعر الكآبة والإحباط فيبدأ بالبحث عن كل ما ينقصه من البهجة والمرح خارج منزله.
بعض الأزواج يتوهج حبهم بعد الأربعين، وقد صاروا أكثر انسجاماً وتفاهماً، وأكثر تقبلاً لبعضهم البعض.
بين الأربعين والستين فترة انتقالية حرجة، وهي من أهم مراحل العمر، حيث يتوقف المرء عندها وقفة محاسبة وتأمل، إيذاناً ببدء التغيرات في حياته، وفي علاقته مع نفسه، ومع محيطه. طوال هذه الفترة سيتجاذبه صراع داخلي مرير بين اتجاهين، فمن ناحية سيجاهد لإقناع نفسه والآخرين بأنه ما زال شاباً يافعاً، ومن ناحية أخرى أنه يتمتع بحكمة الشيوخ، محاولاً لبس ثوب الوقار.
آنذاك، يدخل البعض فيما تسمى «المراهقة الثانية»، أو «أزمة منتصف العمر»، فيتصابى، ويبدأ بالاهتمام أكثر بأناقته، وعطره، ولبس ما لا يتناسب مع عمره. وقد يرتبك إذا ناداه شابٌ «عمّو».. أما الأربعينية فأكثر ما يقلقها أن يناديها أحدهم «خالتو»، أو «حجة». سترد عليه فوراً «حجة في عينك». والبعض يصل فعلاً إلى مرحلة النضوج الفكري، والاستقرار النفسي. والبعض تتفجر مواهبه التي كانت دفينة، فيكتشف هويته الأصلية، التي طالما حيرته، وأنه آن الأوان لصقلها وتطويرها مستفيداً من تجاربه. وآخرون يواصلون رحلة التعب والمعاناة حتى تنهار أرواحهم ويذوي شبابهم بأسرع مما كانوا يظنون.
بعد الأربعين يكون المرء قد استقر أُسرياً ووظيفياً، وقد تطرأ عليه تحولات جذرية في أفكاره وسلوكياته، ويبدأ بالتفكير في القضايا المجتمعية والعامة، أو يبدأ بالقلق على مصيره بعد التقاعد. الأكثرية تبدأ بالملل من روتين العمل والوظيفة، مع إدراك بخطورة المغامرة في تغيير العمل، لقلة الخيارات، والخشية من وهن جسده إذا كان عمله شاقاً. البعض يستسلم لقدره، والبعض يرى أن نصف عمره لا يزال أمامه، وبوسعه إنجاز ما فشل بالقيام به خلال السنوات الأربعين الأولى.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ). الأحقاف (15).