عند نقاش قضايا فكرية وسياسية وديمقراطية ومجتمعية، يتولد اعتقاد بأن ثمة سجالاً سيعقب الكتابة أو قراءة الأوراق وعرض الكتب، ويحتمل حدوث سجال يعزز أوجه الاتفاق، ويحتمل كشف عن أوجه الاختلاف، وفي أضعف الإيمان يحتمل طرح أسئلة عديدة محفزة للتفكير. على سبيل المثال، عندما يتم نقد سياسة وفكر حركة حماس يكون من المتوقع أن يتشارك فتحاويون ويساريون ومتنورون في إغناء النقد بما في ذلك رفض النقد، ويكون من المتوقع أيضا دفاع حماس عن مواقفها وأفكارها وتوضيحها.
للأسف لا يحدث تشارك من أي جهة كانت. وعندما يجري نقد سياسات وأفكار حركة فتح يكون من المتوقع مشاركة اليسار أو أجزاء منه في النقد والتصويب، وأن تبدي حركة حماس اهتماماً بالنقد، للأسف لا يحدث تشارك.
وعندما تطرح قضية التعليم واختلالاتها على بساط البحث يكون من المتوقع مشاركة وانخراط المؤسسات المختصة بالتعليم وكل الراغبين في تعليم تحرري في عملية إزالة القيود عن العقل، للأسف يتم تجاهل المبادرة ولا يحدث تشارك.
وعندما يطرح التمييز والانتهاك الذي يمارس ضد نصف المجتمع من النساء، يكون من المتوقع انخراط المنظمات النسوية والكادرات النسوية وتنظيمات اليسار التي تتبنى العدالة الاجتماعية والمساواة، في النقد وفي رفض الظلم والعمل على إزالة التمييز.
الشيء نفسه ينطبق على قضية غياب الديمقراطية في الممارسة والفعل، وقضايا العمل والعمال ونقاباتهم، ومنظومة القوانين البائدة السارية المفعول عناوين وطنية واقتصادية واجتماعية، التي يستحيل التغيير فيها للأحسن بمعزل عن الخوض في تشخيصها ومعرفة سبل تجاوز الاختلالات.
التشارك المقصود والمطلوب لا يعني مهر اللايكات على الفيس بوك التي أصبحت بديلاً سلبياً للسجال، واستبدلت التفاعل الحقيقي بتفاعل افتراضي، وأسست لزعامات فيسبوكية تعتقد أنها تمسك بزمام الأمور على الأرض، لكنها أثبتت أنها ظاهرة صوتية سلبية مع وجود استثناءات قليلة.
وحتى المنتديات الثقافية والسياسية التي من المفترض أن تفتح الحوار والسجال وتدعمه، سرعان ما تتحول إلى ما يشبه فصيلاً يغلق أبوابه على وثيقة ومجموعة نخبوية تعتمد العلاقات العامة في وجودها واستمرارها.
ومراكز بحث ودراسات تتقن فن استخدام مثقفين وأكاديميين كدليل على الحضور، بعضها يخرج هذه الفئة الحيوية من مواقعها لتتحرك في مدارات لا صلة لها بتغيير واقعها أو التأثير الإيجابي فيه.
ولا يترتب على تنظيم الندوات سجال يجيب عن أسئلة الواقع. النموذج الفاقع على عقم التفاعل، هو حوار التنظيمات السياسية ولقاءاتها، الذي يشبه حوار الطرشان وفي أحسن الأحوال البحث عن صفقة توفيقية يكون العنصر الأساسي فيها هو مصلحة الفصيل ومكاسبه.
يتحدثون ويعرضون مواقفهم ورؤيتهم ولا أحد يستمع لأحد، لا أحد يلتقط نقاط الالتقاء والتوافق ويعززها، ولا أحد يتحدث عن واقعية الأهداف والمطالب وما هي الآليات لتحقيقها. الانفصال بين المكونات الداخلية يترافق مع الانفصال عن العالم الخارجي وموازين القوى والاستقطابات.
إنها طريقة تفكير وممارسة تبرهن على هشاشة الديمقراطية بل غيابها، وطريقة تقدم رؤى مجتزأة ومنفصلة عن بعضها البعض، لا تخضع لتمحيص وإعادة نظر وتصويب، وهي أشبه بمن ينظر إلى المرآة ولا يجد إلا صورته، وأشبه بمن يقرأ ويسمع نفسه دون أن يلتفت إلى ما يكتبه أو ما يتحدث به آخرون، وهنا تسود لغة المصالح الخاصة والفئوية.
وفي المحصلة يتكرس التفكك المجتمعي، ويستمر المأزق السياسي والاقتصادي والديمقراطي الذي توظفه الدولة المستعمِرة في تثبيت الاحتلال والسيطرة على الشعب وتدمير حقوقه الوطنية والمدنية المشروعة، وفي استباحة كرامته الوطنية والإنسانية.
ليس الاحتلال والتدخلات الخارجية وحدهما المسؤول عن هذه النتيجة، العامل الذاتي الفلسطيني يتشارك مع العامل الموضوعي المسؤولية في الإخفاق.
العامل الذاتي بأطرافه التي لا تعترف بالأخطاء الكبيرة والصغيرة، وبالذين يغيبون المصلحة الوطنية العليا والمصالح المشتركة، وبالذين لا يعرفون الديمقراطية إلا بالأقوال، العامل الذاتي هو مسؤول أساسي عن حالنا المزرية.
هل يمكن الانتقال إلى طريقة تفكير مغايرة تخرجنا من الحضيض وتستجمع كل عناصر القوة.
إذا أردنا تحديد نقطة انطلاق مشتركة يمكن البناء فوقها، لن نجد أهم من الديمقراطية.
نحن بحاجة إلى ديمقراطية تبدأ بأن نفتح آذاننا لسماع أفكار بعضنا البعض، ونفتح عيوننا لرؤية المشهد الذي نود تبديد ظلامه.
الديمقراطية تتوج بالانتخابات وتستمر ما بعدها، ولا تقتصر أو تنتهي بعد إقفال صناديق الاقتراع.
الديمقراطية ثقافة وممارسة يصنعها ديمقراطيون ومدافعون عن الديمقراطية في مجتمعنا وفي كل مكان.
وحتى لا تُستبدل ممارسة الديمقراطية بالحديث عن مقوماتها غير الموجودة وبدخول حالة من انتظار المجهول، لا غضاضة من الاتفاق على مبادئ عامة انطلاقاً من استحقاق الديمقراطية التي من دونها فإن الشرعية الفلسطينية المؤسسة على التعدد السياسي والثقافي والديني ستكون بلا سند ومرجعية.
الشعب الفلسطيني هو المرجعية التي تقرر من يقوده ويمثله في المحافل المختلفة.
والشرعية الفلسطينية ارتبطت منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بالشرعيتين العربية والدولية.
السؤال، هل يمكن إدارة الظهر للشرعيتين والاعتماد فقط على شرعية فلسطينية؟ الجواب: لا، وخاصة في لحظة ضعفنا والتحولات في المواقف العربية والدولية.
نحن بحاجة إلى الشرعيتين اللتين يمكن الارتكاز عليهما للتحرر من الاحتلال والأبارتهايد. العلاقة مع الشرعيتين تتقرر على ضوء موقفهما من الحقوق المشروعة ومن الاحتلال، وبالتأكيد سنكون ضد ومن المفترض أن نكون ضد الدول التي تمارس الضغط علينا من أجل الاستجابة لشروط الاحتلال (نموذج صفقة القرن والمؤتمر الاقتصادي في المنامة والقرار البريطاني الذي يتعامل مع حركة حماس كحركة إرهابية، ووسم الـ»بي دي اس» حركة مقاطعة إسرائيل بأنها حركة معادية للسامية وحظر نشاطها).
بهذا المعنى نحن نوظف الشرعية الدولية ونستقوي بها في مواجهة الاستيطان وجرائم الحرب وجدار الفصل العنصري والتطهير العرقي وتهويد مدينة القدس والاستباحة الإسرائيلية للحقوق.
إن إهدار الشرعية بذريعة أنها لا تلبي حقوقنا ولا تترجم قراراتها إلى أفعال ليس من الحكمة في شيء، وهو محض إضرار بالمصلحة الوطنية العليا.
والقوى التي لن تذهب إلى الانتخابات استناداً إلى اتفاق أوسلو، موقف فيه وجاهة، ولكن ممارسة ذلك تكون بالتجاوز العملي للشروط المجحفة، وليس برفض يقود إلى تعطيل العملية الديمقراطية، ولا شك في أنه بالقدر الذي نتحول فيه إلى مجتمع ونظام ديمقراطيين يعيد بناء مقاومته للاحتلال، بالقدر الذي نتجاوز فيه مسار أوسلو وننتقل إلى مسار التحرر من الاحتلال.