كنت على مدخل محكمة “عوفر” العسكرية عندما تلقيت، في حدود الساعة التاسعة صباحًا، اتصالًا من قدورة فارس، رئيس نادي الأسير الفلسطيني، يؤكد فيه على ضرورة مشاركتي، بعد انتهاء جلسة استئناف الاسير الاداري هشام أبو هواش، في “المؤتمر الوطني لدعم الاسرى”، الذي دعت الى انعقاده، يوم الاربعاء الفائت، جامعة القدس المفتوحة في مدينة نابلس، وتحت رعاية رئيسها أ. د. يونس عمرو.
كانت خطاي ثقيلة وتعبي تفضحه أنفاسي المتقطعة. توجّهت نحو القاعة الثالثة، وهي واحدة من أصل تسع قاعات يحاكم فيها الأسرى الفلسطينيون الأمنيون، فكان بابها مغلقًا؛ حاولت أن استفسر عن السبب فتبيّن أن موكّلي، وبسبب خطورة وضعه الصحي، لم يحضر من سجنه الى المحكمة مثل باقي الأسرى، وأنه، لم يدع لمشاركتنا الجلسة من خلال شاشة الفيديو بسبب خلل اداري اقترفته سكرتارية المحكمة.
دخلت القاعة فتبدد غضبي وهدأت ساعة رأيت وجه القاضي الذي عرفته منذ عقود. وهو حين رآني وقف على رجليه، تمامًا كما كان يفعل كل مرّة كنت أمثل فيها أمامه، وفتح ذراعيه، بمودة لافتة، وحيّاني ببسمة عريضة ظلّلها شاربه الاسود الكث. كان طقس استقباله مألوفًا وسريعًا فتفاعلت معه بعفوية واضحة، مع انني شعرت بحرج ممثل النيابة العسكرية، أو ربما خوفه من علاقة القاضي معي، فهو كان مجرد صبي يافع لم يتعلّم بعد جميع أسرار المهنة، وكان يجهل ان “الاحتلال” قد يتبسم، أحيانًا، قبل أن يردي ضحيته؛ ولم يعرف، كذلك، انني خسرت كل ملفاتي عند ذلك القاضي رغم ايقاع رقصة شاربه الشرقي. “ماذا تريد أن نفعل” ؟ سألني، فأجبت، من دون تردد : “تأجيل الجلسة”، ثم أردفت: “اليوم ساعدني القدر وحرمك من أن تضيف نصرًا على سجلّاتك الطويلة”. ضحك كسيّد وهز رأسه برضا وقرر ارجاء القضية لبضعة أيام. ثم سألني، قبل مغادرتي القاعة: “هل ما زلت تقرأ كتابات المرحوم يشعياهو لايبوفيتش” ؟ لم أجبه. كانت عيناي تنظران صوب مقعد النيابة العسكرية، فسمعته يقول لي، واصبعه موجهة نحو ممثل النيابة بنوع من الاستخفاف : “هؤلاء الصغار لا يعرفون من كان يشعياهو لايبوفيتش ولا ماذا كتب..”. تابعت سيري وكأنني لم أسمعه.
غادرت منطقة محكمة “عوفر” متوجهًا نحو مدينة نابلس. لم ادخل الى رام الله، بل استخدمت الشارع الالتفافي الذي أوصلني الى منطقة حوّارة ومشارف مدينة نابلس بسرعة معقولة؛ ثم تباطأت بسبب “عجقة” السير في شارع المدينة الرئيس. لم يكن صعبًا عليّ الاستدلال على مبنى الجامعة، فهو، بحجارته الصوانية الكستنائية، ينتصب على مرتفع واضح وتتصدره واجهة مفتوحة كأذرع الأمل، جنوبًا نحو القدس وشمالًا نحو المدى الأبعد. كان المشاركون في جلسة افتتاح المؤتمر يجلسون على مقاعدهم في قاعة باهية؛ وامامهم، عندما دخلتها أنا، حضور متواضع لا يتجاوز عدده أكثر من خمسين مقعدًا؛ علمًا بأن القاعة ، هكذا فهمت، كانت ملأى بمئات الطلاب عند بداية الحفل.
سمعت كلمتين من أصل سبع كانت قد ألقتها عدة شخصيات اعتبارية وممثلين لمؤسسات وهيئات وقوى سياسية وطنية قبل وصولي. للحظة، وبعد انتهاء فقرة الكلمات، سادت بعض الفوضى في القاعة، فاعلن عريف الحفل ان المؤتمر لم يختتم اعماله، وتمنى على الناس العودة الى مقاعدهم كيما ننتقل الى متابعة فقرة المحاور، والتي سأتحدث فيها ضمن المحور القانوني حول “الحركة الاسيرة والمحاكم العسكرية الاسرائيلية”، ثم يتبعه المحور الاعلامي والمحور الطلابي. لن اتطرق الى جميع تفاصيل مداخلتي؛ فقد أكدت فيها على ان المحاكم العسكرية، وليس اقل منها المدنية في اسرائيل، هي في الواقع أدوات استخدمها ويستخدمها الاحتلال لتسويغ ممارساته وقمعه للفلسطينيين؛ ومن العجب أن تستمر ضحايا هذه المنظومة بالتعامل معها على نفس الأسس التي هيكلت اشكال وقواعد علاقتهم بها منذ بداية الاحتلال. فمن يقبل ان يتعايش مع الاحتلال يتعود، عن وعي او بدونه، على القتل وعلى أن يكون الضحية. قلت هذه النهاية ولم أُعدها الى قائلها الاصلي، الذي كان هو ذلك اليشعياهو لايبوفيتش.
كان الحضور في القاعة قليلًا، لكنني لم أعر ذلك أي اهتمام؛ فيكفي، هكذا رجوت ممن بقوا، ان ينقلوا ما سمعوه للآخرين، والأهم ان تتضمن مخرجات المؤتمر توصيات موضوعية وعملية، على ان تكون من بينها الضرورة لاعادة حسابات القيادات الفلسطينية والحركة الاسيرة نفسها مع المنظومة القضائية الاسرائيلية، لا سيما علاقتها مع المحكمة العليا الاسرائيلية، صاحبة اخطر دور في ترسيخ الاحتلال وتغليفه بذرائع قانونية خبيثة وقاتلة.
خرجت بمشاعر مختلطة، فمعظم من حضروا المؤتمر كانوا من طلاب الجامعة. وهم من فئة الشباب والشابات الذين ولدوا وكبروا في كنف احتلال متمرس، يَرى في جميع الاحيان ولا يُرى في معظمها؛ احتلال عرف كيف يروّض طموحات شعب متعب واين يدقّ اسافينه. انهم ابناء جيل تعوّد على عيشة “الكانتونات” السرابية والطرق الالتفافية، ولا يعرفون كثيرًا عن البدايات، يوم كان شعار “منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” يعني المقاومة والوحدة والتحرر والاستقلال والدولة.
لم أعد عن طريق “كانتون” نابلس، فلقد ارشدوني الى طريق التفافي يعرف باسمه الشائع “محور يتسهار” ، ومنه الى التفافي آخر أوصلني حتى القدس من دون أن ادخل الى “كانتون” رام الله. كنت وحدي وصور الشباب في ساحات الجامعة ووجه الصبي، ممثل النيابة، امامي؛ فتذكرت ضحكة القاضي حينما قال لي “لا تكترث، فهؤلاء الصغار لا يعرفون كثيرًا…”
مع وصولي البيت هاتفني زميل يهودي يشاركني عضوية ادارة جمعية “يدا – بيد” التي تعنى باقامة وادارة مدارس ثنائية اللغة وفق نظام تعليمي خاص يعتمد على نقل مفاهيم المساواة والديموقراطية الخالصتين واحترام الآخر بين جميع طلابها من العرب واليهود . كان حديثه حزينًا وغاضبًا لأن أحد خريجي المدرسة في القدس هوجم بقساوة واصيب بجراح من قبل ثلة من الفاشيين اليهود في وسط المدينة، وذلك بعد ان عرفوا انه عربي. عدت الى شاشة هاتفي فقرأت ما وردها من اخبار لم اتابعها خلال النهار. كانت صورة بشار تملأ الشاشة والى جانبها ما نصته اخته عن الحادثة: “يوم الثلاثاء الفائت، في تمام الساعة الثامنة والربع مساءً في شارع هلل في القدس الغربية، كان اخي بشار عائدًا من تعليمه في “كلية هداسا” عندما هاجمه خمسة شبان. لماذا ؟ لانه تحدث بالعربية .. لا ! أسفة، لانه عربي . فمن غير المهم انك تعلمت 12 سنة في المدرسة ثنائية اللغة، او انك آمنت كل حياتك بالتعايش، او انك تحاول ان تندمج في المجتمع وتدعمه.. المهم، وهنا يكمن الفرق، انك عربي”.
خفت كثيرًا؛ ليس لاننا نعرف بشار وعائلته الصديقة وحسب، بل لانني بت اشعر بنيران الفاشيين تستعر على عتبات بيوتنا.
لم يكن خبر الاعتداء على بشار هو الخبر الوحيد عن جرائم الفاشيين السائبة؛ ففي نفس اليوم نشرت جريدة “هآرتس” نبأ عن صاحب مطعم عربي، من مدينة الطيرة في المثلث، يواجه تحريضًا ارعن عليه من قبل “المجلس الديني” في مدينة “كفر سابا”، الذي وزع مناشير في شوارع المدينة يعلن فيها اسم المطعم وان صاحبه ليس يهوديًا، على ما قد تفضي اليه هذه الحملة من مخاطر على حياته وسلامة محله.
لقد بدأت نهاري في المحكمة العسكرية في “عوفر”، ثم انتقلت الى جامعة القدس المفتوحة في نابلس ومؤتمرها حول دعم الاسرى الفلسطينيين، فلماذا انهي مقالي بممارسات الفاشيين ضد المواطنين العرب في اسرائيل ؟
ببساطة، لأنني أرى العلاقة بين جميع هذه الاحداث عضوية ووطيدة؛ فكم قلنا ان الاحتلال الاسرائيلي هو السرطان الخبيث والفاشيين هم “مستعمراته” / نقائله المميتة وكم توقعنا ان ما يبدأ كارهاب للمستوطنين ضد الفلسطينيين هناك، مصيره ان ينتقل الى هنا، الى “الداخل” وعندها سنكون، نحن العرب، أول فرائسه وهو ما يحصل يوميًا.
ليس صدفة ما قاله القاضي عن جيل الصبية الشباب، لأنه يعلم انهم لا يعلمون مثلًا ان لايبوفيتش حذّر بعد مذبحة الحرم الابراهيمي، وقال: “إن باروخ جولدشتاين هو ممثل أصيل لقسم كبير من الشعب اليهودي.. ” ، أو ان لايبوفيتش استشعر نشوء الفاشية بين اليهود حين قال قبل دهر : “عندما يؤمن الانسان بمبدأ ان “الدولة” او “الامة” او “الأمن” وما الى ذلك، هي قيم عليا ، والولاء لها بدون شرط، هو فرض مطلق ومقدس، سيصبح هذا الانسان قادرا على اقتراف كل موبقة من اجل تلك الاهداف المقدسة، بدون تأنيب الضمير . ان هذا الامر صحيح ليس فقط في حالة الانسان الالماني، بل في حالة الانسان اليهودي ايضًا اذا وصل الى درجة تأليه الدولة، ولنا في كفر قاسم اثبات على ذلك”. فمتى ومن يعلم أجيال ما بعد الاحتلال، هناك وهنا، عظات التاريخ هذه ودروسه ؟ وهل تعرف اجيال اليوم، هناك وهنا، من هو باروخ جولدشتاين ومن هم وارثوه؟
اخشى ان يكون الجواب مطبوعًا على حمرة كراسي قاعة المؤتمر الخالية.