قيل في الموسيقى: إنها شهد الروح، وفيها شفاء للناس، لها أجنحة تحملك إلى عالم الخيال، هي التي تجعل الليل محتملاً، وهي السد الذي يمنع تسلل الغضب، والتي تذيب الكراهية، وهي وليمة المحبين الأشهى.. هي نفي المنفى، والدفء الذي يطرد صقيع الوحدة، ويبدد وحشة الغربة.. ببساطة، دونها سيبدو العالم فارغاً.
كل مشهد جميل دون موسيقى يظل ناقصاً.. تخيلوا صباحاً مشرقاً دون فيروز، أو سفراً طويلاً دون عبد الحليم، أو سهرة حميمة تخلو من لحنٍ ما لبليغ حمدي.. الموسيقى هي روح الجمال ونبضه، وهي التي تهذب النفس وتروض نزعاتها، وتغوص إلى أعمق نقطة في دواخلنا، فتصل إلى حيث لا يستطيع الجنون نفسه التسلل إليها. وأظنّ أن من لا يتذوّق الموسيقى مصاب بعلة ما، أو لعنة ولا يدرك مداها. لذا أَعجبُ لمن لا تفطر قلبه الموسيقى؛ فقد أبكى أنين الناي قلب الحجر، وأتوجس خيفة من كل من لا تسكنه الموسيقى، فلا أسلّمُ جسدي لجراحٍ لا يحب الأغاني، ولا أَأْتمن بائعاً لا يعرف الطرب، ولا أثق بصديقٍ لا تحركه النغمات.. وإذا رأيت تصميماً مدهشاً أدرك أن من صممه مهندس تسري في عروقه الألحان.. بمعنى آخر: كل تفوق دون موسيقى لا معنى له.
يُقال: إن كلمة موسيقى يونانية الأصل، وكانت تعني الفنون بأشكالها، ثم أصبحت فيما بعد تطلق على لغة الألحان. صحيح أنها ضرب من الفنون، لكنها روح كل فنٍ مهما كان صنفه، تراها خلفية لأي فيلم رائع، وتتسلل بين سطور كل رواية مشوقة، وتكاد تسمع صوتها منبثقاً من كل لوحة صامتة، أو من فم تمثال نحته فنان مبدع.. تطرب على إيقاعها في القصيدة، والخاطرة النثرية.. وتخشع لها في صوت عبد الباسط، وكان سيد قطب يتغزل في جمال القرآن، فيصف الجرس الموسيقى المتناغم للآيات الكريمة.
لا شيء يضاهي موسيقى الطبيعة، حتى في صمتها وسكونها.. فالموسيقى بمعنى ما هي لعبة التوازن والتناغم بين الصمت والصوت.. الطبيعة هي أول من علّم الإنسان الموسيقى، فكان يسمع تغريد الحساسين، وشدو البلابل، وهفيف الرياح، وهدير أمواج البحر، وخرير مياه النهر، وهسيس العشب، وحفيف أوراق الشجر، وعزف المطر.. وقبل ذلك، سمعَ خفق قلب أمه حين كان في رحمها.
وهكذا، ولدت الموسيقى من رحم الطبيعة البكر، وجاءت مع ولادة أول إنسان، بدأها بتقليد أصوات الطبيعة، ومحاولته التفوق عليها، ثم رافقته في جميع مراحل حياته، وكانت حنجرته أول وأقدم آلة أخرجت الصوت الملحن، أما التصفيق فكان أول ميزان يناغم الصوت واللحن، بعدها ابتدع الصفير والزغاريد، ثم نفخ في أعواد القصب المثقّبة ليستخرج أنين الناي، ودقَّ على الأخشاب وجلود الحيوانات المثبتة على جذوع الأشجار اليابسة المجوفة، فعرف الطبول، ثم هز الأوتار المشدودة بعدما اخترع النسيج، بعد ذلك ابتدع مختلف الآلات الموسيقية وأخذ يطورها.
كل شعوب الأرض عرفت الموسيقى والرقص والغناء.. لكنها لم تكن للطرب وحسب، كانت جزءاً من الطقوس الدينية، ومن الفلكلور الشعبي، يمارسونها في مواسم الحصاد، ولاستجداء المطر، وطرد الأرواح الشريرة، وفي المناسبات الاجتماعية.. لتحاكي انفعالات الإنسان، وتعبّر عن شعوره الباطني والظاهري، عن توسلاته ورجائه وأشواقه الدفينة، وعن مسراته وأوجاعه وأحزانه. ولتعبّر عن كل ما يتعذر وصفه.
كما كانت شكلاً من الاحتجاج والاعتراض، وكل حركة ثورية صاحبتها الموسيقى والأغاني، من التحرر من العبودية، إلى حركات الحقوق العمالية والمدنية، والحركة النسائية، ومناهضة الحروب، والاحتجاج على الظلم.
في اليونان أُرسيت أساسات النظرية الموسيقية على يد فيتاغوروس وأرسطو، ثم نُقل نظام التدوين الموسيقي اليوناني إلى إيطاليا، وتعود جذور الموسيقى في أوروبا إلى القرن الخامس الميلادي، حيث بدأت في تراتيل الكنائس، ثم تطورت تدريجياً، وفي القرن الحادي عشر ظهرت النوتة والسلّم الموسيقي، وفي القرن الخامس عشر ازدهرت الموسيقى ذات الأنغام المتعددة، وظهرت الأوبرا، وفي عصر النهضة انتشرت الموسيقى الكلاسيكية، وظهرت السيمفونيات، ثم الموسيقى الرومانسية، وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر ظهر الكونشرتو، وتألق بيتهوفن، وموتزارت، وفيفالدي، وباخ، ثم أتت المدرسة التأثيرية (الانطباعية) والموسيقى الجديدة، ثم موسيقى الجاز، ثم الموسيقات الحديثة مثل البوب والروك والميتال وموسيقى الريف وغيرها.
أما العرب، فقد اختبروا الموسيقى والغناء منذ زمن قديم، ويُقال: إنها نشأت في اليمن، وطربت في الحجاز، وبكت في العراق، ورقصت في مصر.. في «العصر الجاهلي» عرفوا أغاني التجوال والرحلات، ومثّلت الخلافة العباسية العصر الذهبي في تاريخ الموسيقى العربية، فقد انتشرت وشاع استعمالها وأصبح الموسيقيون من المقربين لدى الخلفاء، وآنذاك ظهر العديد من الكتب في علم الموسيقى والغناء وأشهرها كتاب الموسيقى الكبير للفارابي، وكتاب الأغاني للأصفهاني. ثم نقل زرياب فن الموسيقى إلى الأندلس، التي ابتدعت الموشحات، وطورت الموسيقى، حتى باتت مركزاً لتصنيع الآلات الموسيقية.
التطور الأهم للموسيقى العربية حصل في القرن العشرين، على يد كوكبة من كبار الملحنين (سيد درويش، وعبد الوهاب، والسنباطي، وغيرهم). وقد تميزت بموسيقاها الشرقية من خلال تفردها بآلات التخت الشرقي (العود، والقانون، والبزق، والناي، والدف، وقد أضاف إليها الموسيقار السوري أنطوان الشوا آلة الكمان، في حين أضاف الموسيقار المصري محمد القصبجي آلة التشيللو، كما تميزت بمقامات معينة مثل الصبا، والنهاوند، والحجاز، والبيات.. والمقام هو مجموعة الأصوات الموسيقية المحصورة بين نغمة «القرار» وتكرارها «الجواب»، أي تتابع السلم الموسيقي حتى الدرجة الثامنة.
قبل ظهور الراديو وآلات التسجيل كانت الموسيقى متاحة فقط للسلاطين والملوك الأثرياء.. أما عامة الناس فكانت لهم موسيقاهم الخاصة: الأهازيج الشعبية، ترافقها الشبّابة واليرغول والطبل، وبعض الأدوات البسيطة حسب ثقافة كل بلد.. كانوا يستمعون لها في مناسبات قليلة ومتباعدة.. وربما عاش الملايين ولم يستمعوا لقطعة موسيقية واحدة.
في فلسطين نشأت الموسيقى مع يرغول الرعاة ومواويل الفلاحين، وأهازيج النسوة، ثم تطورت، عبر محطات تاريخية مهمة، كان آخرها، وختامها المسك تأسيس فرقة الأوركسترا العربية الفلسطينية، التابعة لمعهد إدوارد سعيد، والتي أمتعتنا في عرض مدهش في جامعة بيرزيت.. سبعون عازفاً وعازفة، يقودهم المايسترو المبدع سهيل خوري.. ولعله الحدث الأهم والأبرز والأجمل، والأكثر مدعاة للفرح في فلسطين.. فشكراً لهم وقد منحونا شيئاً نفاخر به العالم.