الملاحة في أرخبيل غير مألوف..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

أما وقد وصلنا إلى الكلام عن الفلسطينيين، وفي الذهن "سلام إبراهيم"، الذي لا يشبه بعده ما كان قبله (وإن شبّه لهم) فلنقل إنهم، شعباً وقضية: على أعتاب مرحلة جديدة، تماماً، في تاريخهم الطويل، وانها قد تكون الأخطر والأصعب، وأن ضرورات البقاء تُحرّض على تجويد مهارات الملاحة في أرخبيل غير مألوف، لتقليل المخاطر، وتذليل الصعاب.
وفي سياق التفصيل والتعليل فلنقل، أيضاً، إن هذا لن يكون مفهوماً إلا من زاوية علاقتهم، شعباً وقضية، بالعرب من ناحية، وعلاقتهم، شعباً وقضية، بعدوّهم الإسرائيلي، في فلسطين، وفي الصراع عليها، من ناحية ثانية.
وإذا كان ثمة من دلالات بعيدة المدى "للسلام الإبراهيمي" فمن عمى البصر والبصيرة ألا نرى، بعده، ما يعتمل الآن في علاقة الفلسطينيين، شعباً وقضية، بالعرب والإسرائيليين، من تحوّلات بعيدة المدى، وألا نرى التحوّلات المعنية على خلفية تحوّلات واتجاهات أوسع في الإقليم والعالم.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالبعد العربي، فلا نتكلّم، هنا، عنه، من مداخل القومية والدين، والجغرافيا السياسية (وكلها تستدعي ضرورة إعادة تعريف، على الأقل لأسباب تتعلّق بالجدوى) بل نتكلّم عنه من خلال تأويل الإسرائيليين وطريقتهم في إنشاء وعقلنة خطابهم العام عن الصراع مع العالم العربي، ومكان الفلسطينيين فيه.
ولكي لا نغرق كثيراً في التفاصيل، فلنقل إنهم وضعوا أقدامهم، في وبعد "سلام إبراهيم"، وللمرّة الأولى منذ العام 1948، على طريق التعاون مع "العرب" في مشروع، بعيد المدى، لتصفية البعد السياسي للمسألة الفلسطينية. أكتبُ هذا، وفي الذهن ما يدور، منذ عقود طويلة، من كلام عام عن "تصفية القضية الفلسطينية"، دون تفاصيل تبرهن على إدراك القائلين لمعنى القضية والتصفية في آن. ناهيك عمّا شهدت تلك العقود من سجالات وصراعات هبطت بفكرتي "القضية والتصفية" إلى مستوى التحيّزات الدينية والطائفية، والحزبية الضيّقة.
ولكن، لا. نحن نتكلم الآن عن شيء جديد تماماً: لا معنى "لتعاون" "العرب" دون تبني هؤلاء للرواية الإسرائيلية بشأن أصل وفصل مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، و"مأساة" الفلسطينيين الذين "ركبوا رؤوسهم" دائماً، ولم يفشلوا في إضاعة فرصة لإضاعة فرصة (على رأي أبا ايبان) ومأساة الشعوب العربية، التي حكمها طغاة جعلوا من الفلسطينيين، شعباً وقضية، "قميص عثمان" فتاجروا بهم، وألحقوا الكارثة بالفلسطينيين وشعوبهم في آن. هذا ما أود تسميته "بالصهيونية العربية".
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن علاماتها وشواهدها، في الحقلين السياسي والثقافي، أكثر من الهم على القلب، وأن مرافعاتها الأيديولوجية كثيرة، ومنها دينية، (خاصة في الهوامش الصحراوية) حول الوعد الإلهي، بطبيعة الحال، ناهيك عن ليبرالية جديدة، من "قاع الدست"، أيضاً. (ولنلاحظ أنها اقتصادية، فقط، أي مجرّدة من بعدها الاجتماعي والفلسفي الغربي، الذي يمنح حريات أكبر للأفراد في المتروبول، ويحد من تغوّل وسلطة الدولة).
 ولكي تتضح هذه الفكرة بشكل أفضل، فلنقل إن ما يصبح خطاباً عاماً لخدمة أهداف أو تبرير سياسات وخيارات بعيدة المدى، لا يتشكل دفعة واحدة، ولا عن طريق "مؤامرة لئيمة"، بل يحدث في "الهواء الطلق"، وينجم عن تراكم ترجمات واجتهادات أيديولوجية متفرقة ومبهمة أحياناً لوقائع مادية، ومصالح واقعية، على الأرض، إضافة إلى إسهام ما لا يحصى من المغفلين المفيدين، ناهيك عن الخدم "الصنايعية"، في سياق قراءة مباشرة، وغير مباشرة، لإيماءات وتوجيهات أصحاب المصالح أنفسهم.
 هذه عملية تراكم طويلة، متعددة المصادر، ومعقّدة، ولا تحتاج، أحياناً، إلى أكثر من مجرّد السكوت عن أشياء، والمبالغة في الكلام عن، وتسويق، أشياء أُخرى. وهذا ما يكتسب قوّة استثنائية مع تجنيد مؤسسات ومنصات صناعة، وتسويق، الرأي العام في خدمتها، إضافة إلى تمويلها، ودعمها بالتقنيات الحديثة، وأحدث استراتيجيات وفنون السوق والتسويق.
ومن المفيد، في هذا الشأن، الإشارة إلى تضافر ثلاثة تطوّرات حاسمة وقعت في السنوات الماضية: الثورة المضادة للرد على ثورات الربيع العربي في بلدانها وخارجها، و"أمننة" (Securitization) السياسة، أي تحويل كل ما يتعلّق بالنظام والسياسات الداخلية والخارجية إلى مسائل أمنية، ووضعها في يد الأجهزة الأمنية لا رجال السياسة. والتطوّر الثالث ما نجم عن علاقة استثنائية وخاصة ربطت ترامب بحلفاء في الإقليم من تداعيات ومغامرات داخلية وخارجية.
 في تضافر هذه التطوّرات ما يبرر الكلام عن موجة غير مسبوقة من القهر السياسي والاجتماعي على طريقة ما شاع في نظامي البعث السوري والعراقي، وتعميمه في كل مكان آخر، بمسحة صحراوية ونيوليبرالية محافظة، جديدة وفريدة، في التاريخ الحديث للعالم العربي. ولا معنى للقهر السياسي والاجتماعي ما لم يكن مادياً، فجاً، ومبتذلاً، وصريحاً. وهذا ما يحدث الآن، وما سيحدث بقدر أكبر، في مناطق مختلفة من العالم العربي، في المدى المنظور.
وهذا الأمر مُقلق على نحو خاص، فالقيم التقليدية للديمقراطيات الغربية، وعلى الرغم مما وصمها من ازدواجية ونفاق، تتآكل في كل مكان تقريباً، والقوى الصاعدة الجديدة كالصين والهند، وروسيا (في زمن ما بعد السوفيات) تتبنى سياسات محافظة، ولا تقيم وزناً لأشياء كهذه. وهذه، على أي حال، بيئة مثالية لشرعنة نظام الأبارتهايد القائم في بلادنا. فاصل ونواصل.