وداعاً حسن البطل

ريما كتانة نزال.jpg
حجم الخط

بقلم: ريما كتانة نزال

تعود معرفتي بالراحل حسن البطل إلى عام 1972 عندما تعرفت إلى آل البطل من خلال الشهيد «سعيد البطل- أبو مشهور»، شقيق «حسن» الأصغر. وكان الشهيد «أبو مشهور» من أوائل من تعرفت عليهم في غربتي في مكاتب الجبهة الديمقراطية، بما جعله مرجعية معرفية ألجأ إليه في احتياجاتي وخاصة لفهم الواقع الشامي، خاصة في أعقاب ما سُمّي بالحركة التصحيحية حيث ساعدني في تفسير الكثير من أحجيات السياسية السورية.
كان ارتباطي بالعائلة يشبه التبني عندما التحقت بجامعة دمشق بعد إبعادي من قبل سلطات الاحتلال في بداية السبعينيات. عاملتني عائلة «الأبطال» كابنة لها، فكنت الابنة الجديدة «لمريم البطل» وأختا ورفيقةً لـ»آمنة وزينب»، اللواتي كثيرا ما تناولهن «حسن» في مقالاته، وكنت أحد ضيوف البيت الكريم الكائن في شارع بغداد، حيث نجلس في حضرة «الطيرة» كما يرونها من خلال عيون الأم .
كثيرة هي المحطات التي جمعتني بحسن البطل، اولها كانت في جامعة دمشق حيث كلانا كان طالباً فيها، وبقي «حسن» يتردد عليها بعد تخرجه حيث كانت بؤرة للوطنيين من كل الجنسيات وللاجتماع مع المثقفين السوريين وغيرهم الذين كانوا عادة يجتمعون في مقهى الجامعة، يعرضون نتاجاتهم الادبية والشعرية، وكنت أحتار في قدرة «حسن» على قراءة الشفاه وتدخل النقاش لتملأ فراغاته بفلسطين.
ولا زلت اذكر عندما أخرجني «البطل» من قاعة الامتحانات، مشيراً لي بيده من خلف الزجاج أن أخرج! خرجت مسلمة ورقة الامتحان لمعرفة الجلل الذي جاءني به، وللمفاجأة كان يريد إحاطتي علماً بأن بعض المثقفين الشباب قد تراهنوا على من يستطيع الوصول إلى قلبي.. جمله القصيرة بصوت يرتفع وينخفض خاتما حماستك بالقول لهم «هذه حبيبة خالد!». هكذا كان «البطل» نقياً صادقاً مبادراً، مستمراً في الحياة كبطل يخرج من رواية فروسية من العصور الوسطى، واستحق يومها مني أن ألقبه بالملاك الحارس، شابة خرجت تتأبط سذاجتها الريفية إلى جامعة «دمشق».
كما جمعتني بالراحل حسن البطل معرفتي بشقيقه الأصغر في العائلة «سعيد» الذي استشهد مبكراً بسبب حادث سير وكان كثيراً ما يكون موضوع حديثنا المستفيض بواسطة «الماسنجر» عندما كتب لي «حسن» «أنت تعرفين شقيقي أكثر مني». فاستفضت بما عرفته عن «أبي مشهور» صديقي المشترك مع الشهيد «خالد»، في زمن مختلف وسياق آخر.
وبعد انقطاع ما بين المنافي والوطن جمعتنا مجددا جريدتنا «الأيام» التي شعرت فيها أنها بيته الدافئ، حيث كنا بين حين وآخر نتحاور باقتضاب ما يكتبه في ’أطراف النهار’ بسبب أن بعض مقالاته الإشكالية في محتواها بسبب الخلاف على ما جاءت به، أو إشكاليتها بسبب قصوري عن فهم ما يرمي إليه وبما تضمنته من مواقف او تحليلات، وكنت فخورة دائما بامتداحه بعض ما أكتب خاصة عندما يُطلق عليّ لقب «محامية النوع الاجتماعي» أو غير ذلك من التعليقات الطريفة.
أهم ما يميز»البطل» أنه قارئٌ نهم، استقى ثقافته من قراءته الغزيرة والمتنوعة، بما يمكّن قلمه من تناول كل شيء تقريباً، ولا إخالني أغالي بالقول انه يمكن اعتبار مقالاته تسرد تاريخ فلسطين، وهي بكل ثقة مصدر من المصادر الموثوقة بسبب معرفته المباشرة وخلفيته واطلاعه الغزير وقراءاته وسعة اطلاعه، التي جعلته يطور نمطاً متطوراً من الكتابة الصحافية، جعلت مقالاته القديمة قابلة للقراءة بعد عشرات السنين من كتابتها والشعور براهنيتها..
بهذه المعاني؛ وبالأثر المتروك خلف «البطل» لن يكون الكاتب الغزير خارج الصورة، سيبقى داخل إطارها، لأن إرثه أقوى من أن يموت ويندثر. فكتاباته اندغمت بإحكام أصيل في طقوس عشق الحياة كعاشق لها، وارتبطت بوثاق متين بتفاصيلها، مقدماً «فلسطين» بجدارة التفوق المعرفي الخاص، ومروجاً لهويتها الحقيقية. وسينهل منها كل من أراد أن يكون حراً، ويُحاكي تجربة أحد صُنّاع التغيير دون جدل.
«حسن البطل» عاش في الممكن.. وكتب لممكن ثانٍ. برحيله تفقد الصحافة الفلسطينية والعربية فارسا من فرسان الكلمة الصادقة النابعة من ضمير وطني حي. غاب «حسن» في زمن تماهت فيه الألوان وتداخلت الاتجاهات وتبعثر الكلّ الوطني الى حد  يبعث على الرثاء، يحمل نبوءة أخيه سعيد الذي سلمها لي الماسنجر بعد حوار عن الرفاق والاخوان: «سنموت قبل تحرير شٍبْرٍ من فلسطين».. تحققت نبوءة «سعيد» عندما تمكّنتَ من زيارة «الطيرة» دون أن تتحقق عودتك إليها، لكنك الآن كما تتوقع النبوءة، حيث الصخب الذي عادة ما يرافق القبور ستلتقي مجدداً بنصري وسعيد وخالد وإنعام وآمنة ومريم وزينب ومصباح، ويعود سمعك بعد أن تعب من الهدوء، ستكون لك مقالا أخرى عن الطيرة ورام الله، متنوعة ومختلفة، مباشرة وغامضة، كما اعتدت واعتدنا!
وستبقى حيّاً في أذهاننا وأذهان جميع قرائك.