رد اللواء توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، في رسالة على القيادي في حركة حماس المفكر د. أحمد يوسف، وهذا نصها:
السلام عليك، ولك، وبعد:
أكتب لك مرَّة أخرى رداً على ردِّك، هنا تحت عرش السماء من على هذه ال فلسطين،التي هي أولنا وآخرنا وظاهرنا وباطننا، ومبتغانا بعد الله في الحياة الدنيا، ولأننا آمنَّا بالله رباً، وبفلسطين دارة حياة وجنة أرض، وطناً، وانتمينا إليها وجعلنا ولاءنا لها ولها فقط، وعرفنا موطئ قدمنا، وقدّرنا خَّطوَنا، ومشينا إليها نحمل الفكرة والرسالة والفعل الذي قضّ مضاجع الاحتلال، فيا صديقي الدكتور أحمد، عليك أن تتأكد بأن قدماً لا تُقَدِّرُ خَطوَهَا، لا يحقُّ لها أن تُفاخِرَ بالطريق.
وبوعي واحترام، أختلف معك على صعيدين، الأول قراءة تاريخ الماضي ووقائعه، والثاني ما يتعلق بالراهن، لأن في سطورك ما يُحمِّل الطرف الآخر ــ طرفنا ــ الذي أعيته محاولات تحقيق الوئام والوحدة الوطنية، مسؤولية استمرار الشقاق.
في تاريخ حرب فلسطين، كان العنصر العربي المؤمن المجاهد، هو الذي سجل بطولات لم تكن كافية لتحقيق النصر أو تخفيف الكارثة. هكذا هي سنن الصراعات. ففي حيثيات كل هزيمة، هناك بطولات.فالشيخ حسن البنا، حسب ما ورد في كتاب لأحد القيادات من التنظيم الخاص (محمود الصباغ) دعا للمرة لأولى، في إبريل 1948 الى تطوع من يرغبون من شباب الإخوان، للجهاد في فلسطين. من بين هؤلاء من التحق بمعسكر افتتحته جامعة الدول العربية (في هايكستيب على طريق القاهرة الاسماعيلية) وعينت له قيادة عسكرية من ضباط متطوعين، كانوا في تنظيم الضباط الأحرار مع جمال عبد الناصر، وأحدهم، وهو نائب أحمد عبد العزيز كان كمال الدين حسين عضو قيادة تنظيم الضباط. كل عدد المتطوعين، كان 280 رجلاً. وقد ذهب أفراد من جماعة "الإخوان" في إطار ثلاثة مجموعات، واحدة تحدث عنها المرحوم كامل الشريف في كتابه عن "جهاد الإخوان" ولم يتعد عملها، إلقاء الخطب القوية، وإشغال المكاتب والفروع وتعلية الحماسة، لكن سلطات البغي "العميلة" لم تمكنهم من الوصول، إلا مجموعة صغيرة من الشبان، دخلت سيناء بحجة رحلة اكتشاف جغرافية علمية طلابية، نجحت في التسلل الى فلسطين، ثم اصطدمت ببؤس الأحوال وعدم القدرة وعادت أدراجها (أنظر كتاب كامل الشريف). وواحدة دخلت الى فلسطين في إطار القوة التي شكلتها جامعة الدول العربية من خليط متطوعين، والثالثة قوة إخوانية صرف، أعتقلتها السلطات المصرية في معسكر في منطقة النصيرات، وقوامها 150 فرداً، من محافظة الدقهلية في غالبيتها، وأفرج عنها اللواء أحمد المواوي على عاتقه، لكي تتولى الهجوم على تبة 86 في شرقي وسط قطاع غزة، بعد فشل هجومين سابقين للجيش بمعدات فاسدة، وقد أبلى المجاهدون بلاء حسناً واستعادوا التبة. لكن هذا الجهاد الذي تتحدثون عنه أخي د. أحمد يوسف، كانت في قصته الحقائق التالية:
1 ــ لم تفكر جماعة "الإخوان" في موضوع الجهاد في فلسطين، إلا في ربيع العام 1948. الشيخ محمود الصباغ، وصف أجواء النقاش في تلك السنة، وهو نقاش انتهى بقرار، أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم.كان عمر الصراع عندها 28 سنة، قطعت خلالها الجماعة التي كان عمرها آنذاك 20 سنة شوطاً في العنف الداخلي في مصر، الذي تحدث عنه في مذكراته أقطاب وقادة من التنظيم، منهم الشيخ سيد سابق، وصلاح شادي قائد التنظيم الخاص في مرحلة الأربعينيات، وتحدث كثيرون، منهم الشيخ محمد الغزالي، الذي وصف شبان التنظيم الخاص، في كتابه "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث" أنهم كانوا "شراً وبيلاً على الجماعة فيما بعد، فقد قتل بعضهم بعضاً، وتحولوا الى أداة تخريب وإرهاب، في يد من لا فقه لهم في الإسلام، ولا تعويل على إدراكهم للصالح العام" (ص 264). وفي مواضع كثيرة من كاتبه، كان يسخر من سياق عمل "الإخوان" المسلحين، فيقول إنهم راغبو تسلية، بسطاء في تعليمهم، منهم النجار والسباك والحداد". ويروي قطب "الإخوان" د. عبد العزيز كامل في مذكراته، قصة المشادة بين الشيخ البنا وقائد التنظيم الخاص في مرحلة سابقة (عبد الرحمن السندي) الذي دبر عملية اغتيال القاضي الخازندار. الأول يقول لم أعط أمراً بالقتل ولا أتحمل دم القاضي أمام الله، والثاني يقول إن "الاستاذ" أمره بالقتل، وتجري مناقشة حادة حول الفارق بين الأمنية التي أعرب عنها البنا بقوله "لو ربنا يخلصنا منه" والأمر بالقتل. فتاريخ العنف الإرهابي طويل، يا أخي د. أحمد، بينما تاريخ الجهاد قصير ومتأخر.
2 ــ قبل أن تبدأ معركة فلسطين بسنة واحدة، وصلت علاقة الشيخ البنا، بالسفارة الأمريكية، الى ما يضاهي علاقته بالسفارة البريطانية، التي كانت معنية بتقوية الجماعة، واستخدامها لضرب حزب الوفد والشيوعيين، وسلاحها الأمضى هو الدين الذي يستقطب الناس. فمن بين وثائق السفارة الأمريكية في القاهرة، محضر لقاء بين البنا والقائم بأعمال سفارة الولايات المتحدة "جيفرسون باترسون" وفيه أن البنا أبلغ الديبلوماسي الأمريكي، أن منتسبي الإخوان أصبحوا 600 ألف منهم من 25 ــ 30 ألفاً منظمون عسكرياً وتحت السلاح"، ويرد عليه باترسونقائلاً:"نحن نعرف ما لديكم، ونوعية السلاح، ففي مناسبات عديدة، اتصل أعضاء من الجماعة، بمكتب الملحق العسكري الأمريكي، طلباً لكتيبات تتعلق بالأسلحة الصغيرة والتدريب العسكري". وبالنظر الى التفصيلات العسكرية لحرب فلسطين، أخي د. أحمد يوسف، نرى أن تفوق الهاجاناه واليهود، عددياً، فضلاً عن التسليح، هو سبب البلاء. فأين الــ 25 ألفاً الذين كانوا سيحسمون المعركة؟
أقول لك لماذا لم يكن هناك ألوف. لأن الفكرة كانت لمجرد تعزيز الخطاب الإخواني في المجتمع وتأجيج العاطفة لصالح الجماعة. أما مشروع "الجهاد" بقوة تضاهي زخم الإرهاب، فلم يكن وراداً. ويقول القطب الإخواني المرحوم محمود عساف في مذكراته، ومثلما تؤكد الوثائق، أن الاتفاق تم بين الجماعة والأمريكيين، على تشغيل شباب أخواني للعمل ضد الحركة الوطنية ممثلة في "الوفد" والشيوعيين، وأن الشيخ البنا بعد الاطمئنان لترسيخ العلاقة، قال للديبلوماسي الأمريكي بالحرف:"أمريكا تؤيد حالياً الأهداف الصهيونية، ولذلك يجب أن يكون للإخوان حق الاعتراض على هذه النقطة". لذا، أخي د. يوسف، إن هذا هو مستوى الموقف، وما تتحدث عنه من نوايا ومن جهاد أسطوري، لا علاقة له بالوقائع. الفارق كبير بين كلام الخطابة، وواقع الخطط والتوجهات. الأول للتحشيد، والثاني للتمكين. ما قال البنا للأمريكيين، لا يقاس بما كان يقوله حتى نوري السعيد للأمريكيين والإنجليز.
3 ــ لماذا، أخي، تستخرجون من بطن الهزيمة، إدانة لمن حاولوا وفشلوا، وتعيبون عليهم كل تاريخهم، ولا تعترفون لهم بمأثرة أو حسنة، وفي الوقت نفسه، تستخرجون من بطن الهزيمة نفسها، لأنفسكم، براهين عنفوان وانتصار؟ بل الأدهى، أن فاروق، في أدبياتكم، وهو الذي دللته جماعة "الإخوان" ليس مسؤولاً عن هزيمة، رغم أن ما كتبه الشيخ الصباغ، عن شكوى ضباط الجيش من فساده وفساد قياداته يندى له الجبين، لكن جمال عبد الناصر هو الذي جعلتموه رمزاًللهزيمة وكأنه سعى اليها ولم يسع الى نقيضها ولم يحاول؟
النقطة الثانية، وهي تتعلق بقراءة المشهد الحالي، هل أنت على قناعة، يا أخي، أن جماعتكم في غزة، مستعدة للإسهام في قيام نظام سياسي فلسطيني، له مقومات الهيبة للصالح العام، والتخلي عن هيبة وقبضة الجماعة؟ أجيبوا عن هذا السؤال، رغم أن الوقائع أعطتنا الجواب. ودعك من تجارب المغرب العربي، الذي يتماهي فيه المنحى الإسلامي مع العروبة والوطنية، وانظر الى المشرق. مع من تحالفت جماعة الإخوان؟ في العراق، تحالفت مع الأمريكيين. وفي تركيا، هي سعيدة ومستأنسة بحلف الأطلسي، وفي صراع سورية في الثمانينيات، تحالفت مع المارونية السياسية، صديقة إسرائيل في لبنان. وكان الأمريكيون مساندون للجماعة هم والبريطانيون. وفي الخمسينيات، أنت تعرف أين كانت مواقع الجماعة ومرتكزاتها وتحالفاتها، على الأقل ــ لكي لا نسيء لأي نظام عربي ــ كانت الجماعة محمية من قبل أنظمة ليس لها ثوابت، سوى العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن ولندن، فيما الشعوب وحركات تحررها، تكابد النفوذ الإستعماري القديم. أنتم، في خطابكم، تعيبون على الآخرين، علاقاتهم العابرة والاضطرارية، مع جهات دولية، لكنكم لا تنظرون لتحالفات مع أنظمة قامت واستمرت، بشفاعة منحى سياسي تعلمونه. واليوم، فتش عن "الإخوان" لتعرف أين هم مستريحون، ستجد أن لندن هي واحة عملهم الآمنة، وكذلك اسطنبول!
أخي د. يوسف: إن حركة "فتح" هي إطار واسع، أشبه بالتحالف أو الائتلاف، لمناضلين ليس بالضرورة منسجمين فكرياً، وهم من خلفيات متعددة. صنعوا إطارهم، لكي يشبه واقع شعبهم، طبيعي، أن يكون هناك اختلافات متدرجة في السخونة أو الحدة، لكن الهدف لا يتزحزح، والبوصلة الى فلسطين. نحن معنيون بإطار قادر على التجدد، وعلى الأخذ بمقتضيات كل مرحلة، وما تتطلبه كل المراحل، من تكريس النظام، والانحياز لكيان فلسطيني على أسس قانونية ودستورية، يتساوى فيه الجميع، ويجد فيه كل طامح وكل مناضل، فضاءه وسياقه النضالي.
وقبل خلاصة القول، فإن ادِّعاءك بأن: "الإخوان شريان الأمة النابض، وفي ظل غيره حالة من الذلة والمهانة والانكسار"، فيه ما يبرهن على ما قلناه وما سنقوله فيما يلي، بأنكم لا ترون إلا أنفسكم، وتنكرون على الآخرين نضالاتهم، ودم شهدائهم، وتاريخهم الثوري المقاوم الذي أسس لتكون البلاد حرة لكل الفلسطينيين وللسواعد التي تحررها، فقد قدمت حركة فتح أكثر من 15 قائداً من لجنتها المركزية فقط، شهداء على طريق الحرية لفلسطين وليس لفتح، وغيرهم الآلاف من أبنائها الذين لا يزالون حتى الساعة، يرتقون شهداء من أجلها، وغيرهم القادة الشهداء، والشهداء القادة من فصائل منظمة التحرير كلها، دون استثناء أبداً، وكذا من حركة الجهاد الإسلامي المناضلة المجاهدة، التي تعمل بوطنية وبصمت دون استعراض، وضمن أجندة فلسطينية وطنية تجمع ولا تفرِّق، فمن هي رأس حربة الدفاع عن كرامة الأمة إذاً؟ والجواب برسمكم، وهو عند شعبنا بيّنٌ وجليّ.
غاية القول، إن جماعة "الإخوان" باستعصائها على أُمنية التحالف الوطني في إطار الجماعة الوطنية، لأنه من الضرورة القصوى، توفر المناعة الوطنية أولا قبل الوحدة الوطنية، المناعة التي برغم أي اختلاف سياسي أو مذهبي أو فصائلي أو غيره، يحرَّم ويجرّم الاختلاف عليها أو معها أو فيها، وهي فلسطين المشتهاة الوطن، وحدة واحدة موحدة، وكل عناصر السيادة لشعبها مثل العلم والنشيد الوطني، وعدم التقسيم ولا القسمة، لأنها فلسطين التي لا تقسم إلا على نفسها وعلى الواحد الصحيح، لأنها الصحيح الدائم والقائم على الحق، ولذلك قلنا إن "الجماعة" ليست مؤهلة حتى الآن، لأن ترفع مع الوطنيين أعباء هذه المرحلة الثقيلة والصعبة. إن كنت تخالفني الرأي، فإن الماء يكذب الغطاس. أورد لك إشارة دالّة على ما أقول، زهَّاركُم قال اليوم الأحد 14 كانون أول، 2015م: لن نُسَلِّمَ معبر رفح للصوص والمهرِّبين، فمن هم اللصوص يا أخي أحمد؟ وبصراحة، فليس ذلك هو المطلوب، قل لي، اليوم، إنك وجماعتك، مستعدون لإرجاع قطاع غزة الحبيب للكل الفلسطيني مع الضفة والقدس العاصمة، ومستعدون للمشاركة الحقيقية، وبإخلاص، لإنهاض نظام سياسي فلسطيني وطني مستقل خالص لا يتبع إلا لنفسه وقضيته، ويحتكم الى الشعب، وإنهاء قبضة الجماعة، وأية جماعة، على أي جزء من المجتمع، وسأقف معك يداً بيد نعتذر لشعبنا عن السقطة الكبرى التي جعلته مقسَّماً، وسأطوي ذاكرتي وحصيلة قراءاتي عن تاريخ "الإخوان" وأطبع قبلة على جبينك.