لدينا اعتقاد بأن المنعطفات التاريخية، والأحداث التي غيّرت وجه العالم، وراءها أسباب كبيرة وواضحة، أو أحدثتها شخصيات عظيمة، أو أتت بعد حروب طاحنة، أو كوارث طبيعية مدمرة.. ولكن حسب نظرية «أثر الفراشة» هذا الكلام غير صحيح، بل طريقة تفكير غير علمية، ومضللة. والصحيح أنّ أشياء صغيرة جداً بالكاد نشعر بها، هي المسؤولة عن أغلب الأحداث الكبرى، وهي اللاعب الخفي الذي كان يقلب مسارات التاريخ، ويصنعه.
تلخص نظرية «أثر الفراشة» الحكمة الأثيرة: «معظم النار من مستصغر الشرر». وتشرحها المقولة الرائجة: «فراشة ترفرف بجناحيها في البرازيل قد تسبب إعصاراً في تكساس»، كما تحكيها أغنية أميركية قديمة، مستمدة من التراث الإنجليزي والألماني، تقول بما معناه: «ضاع المسمار، فضاعت الحذوة، فضاع الحصان، فضلَّ الفارس طريقه، ولم تصل الرسالة، فسقطت القلعة، فخسرنا المعركة، فانهارت المملكة».
كان عالم الرياضيات إدوارد لورنز أول من صاغ نظرية تأثير الفراشة في الستينيات في اجتماع للجمعية الأميركية للتقدم العلمي. كان لورنز يشتغل في الأرصاد الجوية، فاكتشف أن النماذج الخطية للتنبؤ بالطقس غير فعّالة، وأنها تفشل أحياناً بشكل فظيع، فأدرك أنَّ الخلل يكمن في إدخال بيانات غير دقيقة على المعادلات الرياضية (قد تكون أجزاء من الألف)، أو إهمال عوامل ضئيلة يُعتقد أنها غير مهمة. وهذه تؤدي لتغيير بسيط في الظروف الأولية لكن آثارها تصبح هائلة على المدى البعيد.
نحن عادة نرى في رفرفة الفراشة رقتها وجمال ألوانها. لكن ما لا نراه: أنّ هذه الرفرفة ليست معزولة عن محيطها؛ فرفرفة جناحيها تخلق ذبذبة صغيرة جداً في الهواء القريب، فيتأثر هذا الحيّز الهوائي، ناقلاً تأثيره إلى أقرب نقطة، محفزاً لسلسلة من التفاعلات الصغيرة التي تكبر رويداً رويداً، خالقة مزيداً من التفاعلات الجديدة، حتى تبدأ بالتأثير على الظروف الأولية على الطقس، وصولاً إلى تحريك الرياح والعواصف.
وبالطبع، لا يعني هذا أن كل رفرفة فراشة، أو حتى نسر ستخلق عاصفة، المقصود أنّ أصغر خطأ في الإعداد الأولي (رقم صغير جداً، أو عامل غير مرئي، أو شيء غير محسوب) سيؤثر على المعادلة النهائية، حيث تتجمع تلك الأخطاء الصغيرة بمرور الوقت، بما يُعرف بالنمو المتسارع للأخطاء، ومع تراكمها تؤدي إلى نتائج غير صحيحة، أو غير متوقعة. وأصبحت هذه الفكرة أساساً لفرعٍ من الرياضيات يعرف باسم نظرية الفوضى، والتي يمكن تطبيقها في شتى المجالات.
قبل نظرية الفوضى كان المجتمع العلمي يتعامل مع الطبيعة وفق قانون الحتمية، حيث اعتقد العلماء أنهم من خلال قوانين العلم ومعادلاته الصارمة يسيطرون على كل شيء، وأنهم قادرون على الوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة لأنّ الكون كله خاضع لقوانين ثابتة ومعروفة، وفهم هذه القوانين الثابتة يمكّنهم من توقع المستقبل، بمعنى أنَّ فهم المعطيات الموجودة أو التي حدثت في الماضي، وتوفر نفس الظروف المحيطة يضمن تكرار نفس الأحداث، وبنفس الكيفية. هذا ينطبق على معظم العلوم التقليدية، ويسري على ظواهر الطبيعة المعروفة والمحسوبة مثل الجاذبية والكهرباء والتفاعلات الكيميائية وقوانين الحركة.
بينما نظرية الفوضى على النقيض تماماً، حيث تقول: إن المعطيات المبدئية في أي مسار، مهما كانت ضئيلة، ستؤدي إلى تغييرات كبيرة غير متوقعة. هذه النظرة الثورية أفقدت المجتمع العلمي شعوره بالسيطرة الكلية، وقدرته على الإمساك بزمام الأمور، وجعلته يدرك أن الطبيعة وتغييراتها المفاجئة تشكل تحديات حقيقية للعلم وذكاء الإنسان، وأنَّ فوضى المفاجآت غير الخطية وغير المتوقعة، تفرض عليه أن يتوقع ما هو غير متوقع. خاصة مع المعادلات غير الخطية التي يصعب التنبؤ بها أو التحكم فيها، مثل تنبؤات الطقس، وتوقعات الأسواق المالية، والحراكات الاجتماعية، وتحليل الواقع السياسي، وتفاعلات الدماغ البشري وهرمونات الجسم، والعلاقات الإنسانية. وهذه الظواهر وغيرها تجسد التعقيد اللانهائي للطبيعة.
لو طبقنا هذه النظرية على واقعنا، بتناول بعض الأمثلة سنحصل على نتائج مدهشة وصادمة. لنفترض مثلاً أنك ملتزم ببرنامج صباحي صارم ودقيق، بحيث تكون على الشارع العام في طريقك للعمل في ميقات محدد، وتصادف أنك غيرت إجراء بسيطاً على برنامجك اليومي، كأن تستيقظ متأخراً خمس دقائق، أو تغير مسارك بسبب الازدحام، فوقع حادث تصادم. هذا الحادث حصيلة سلسلة لا متناهية من التفاعلات لجميع الأشخاص الذي تصادف وجودهم في الشارع في تلك اللحظة.. فلو أن أحدهم غيّر في مسلكه شيئاً بسيطاً ربما لم يقع الحادث، أو وقع في مكان آخر، ولأشخاص آخرين. فإذا توفي أحدهم بالحادث، فإن مصير عائلته بالكامل سيتغير إلى الأبد. بمعنى أن حلاقة ذقنك، أو مدة مكوثك في الحمّام كانتا جزءاً من سلسلة تفاعلات متفرعة ومتصلة أدت إلى حادث سير، أو دفعتك إلى ملاقاة شخص بالصدفة، وهذا الشخص عرض عليك فرصة عمل.
بالمثل، لو أن الشرطية التونسية التي صفعت البوعزيزي تحلّت بالأخلاق ولم تصفعه، هذا يعني أنه لن ينتحر، وبالتالي ستتأخر الثورة التونسية، أو أنها ستأخذ مساراً مختلفاً. وبالتالي فإن ثورات الربيع العربي (التي جاءت نتيجة واستجابة للثورة التونسية) ستتخذ مسارات مختلفة، أو أنها لن تحدث أساساً.
وبالمثل يمكن لنا أن نتخيل مستقبلاً آخر للعراق، لو أن صدام حسين تعرض في طفولته لمرض ما، غير مسار حياته فلم يصل للسلطة، أو أن سائق سيارة ولي عهد النمسا لم يدخل ذلك الزقاق ليجد بالصدفة من كان يتوق لقتله، تلك الحادثة التي أشعلت نيران الحرب العالمية الأولى.. أو أنّ والدة هتلر تمكنت من إجهاضه كما كانت تخطط حين كان جنيناً، هذا يعني أنه لن يصل للسلطة، ولن تقوم الحرب العالمية الثانية.
ولك أن تتخيل ما لا حصر له من الاحتمالات، التي بدأت بأحداث غاية في البساطة، وانتهت بتغيرات جوهرية وعميقة. مثلاً كلمة تشجيع من معلم لتلميذ انطوائي جعلته يطلق مواهبه الدفينة، فيصبح عالماً، فيخترع جهازاً يغير في حياة الملايين.. أو توبيخ أب لابنه بشكل مهين حوّله من إنسان طبيعي إلى مجرم.. أو كتاب قرأه طالب ذكي فتحفزت أفكاره ليصوغ فيما بعد نظرية علمية متكاملة.
ارجع إلى ذكرياتك القديمة، ستجد أن موقفاً صغيراً، أو شخصاً ما، أو كلمة عابرة غيرت مسار حياتك.
«لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئاً، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طَلِق». حديث شريف.