متحوّر "أوميكرون"... بين العدالة الصحية والإرباك العالمي

د.عقل أبو قرع.jpg
حجم الخط

بقلم: عقل أبو قرع

يجتاح المتحوّر الجديد «أوميكرون» من فيروس كورنا أو «كوفيد -19»، العالم بشكل مذهل، وقبل يومين أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن اكتشاف 3 حالات من الإصابة بهذا المتحوّر في بلادنا، وبلغت الإصابات في دول مثل بريطانيا أعداداً يومية لم تشهدها منذ بدء الجائحة، حيث وصل مجموع الإصابات اليومية الى حوالى الـ 80 ألف إصابة خلال 24 ساعة، وتشير الدراسات الى أن الأعداد من الإصابات بـ «أوميكرون» تتضاعف خلال 3 أيام بسبب الانتشار السريع، ومن الواضح أن هذا المتحوّر الجديد يجتاح أوروبا حالياً من أقصاها الى أقصاها، وبدأ بالانتشار بقوة في الولايات المتحدة، وسوف يكون هذا المتحوّر من الفيروس الأكثر انتشاراً في العالم خلال فترة قريبة.
ورغم أن التحوّر في عالم الفيروسات هو من البديهيات أو من الأمور المسلم بها، الا أن التحوّر السريع ومن ثم الانتشار المخيف له وبالتالي التسابق المحموم على إعطاء الجرعة المعززة من اللقاح ضد كورونا، يُظهر الارتباك العالمي في التعامل مع هذا الفيروس الذي أذهل العالم خلال السنتين الماضيتين، ويبين هشاشة وضعف العالم الذي أصبح يشبه منطقة جغرافية صغيرة مغلقة حين يتم التعامل مع هذا الفيروس وتحوراته، ويظهر في نفس الوقت كيف أن غياب مفهوم العدالة الصحية، اي التفاوت بين دول أو مجتمعات العالم في التعامل مع هذا الفيروس، سواء من حيث الإمكانيات أو المعلومات، هو من أهم الأسباب الى الوصول الى الوضع الحالي، وهذا يتماشى مع غياب مفاهيم أخرى من العدالة، منها العدالة المناخية أو البيئية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما.
والضعف أو التأخر الكبير في إعطاء اللقاحات في دول فقيرة أو ذات إمكانيات ضعيفة، أو في دول تنتشر فيها الأوبئة التي تُضعف المناعة هو من أهم أسباب نشوء التحوّرات الخطيرة أو سريعة الانتشار، حيث نعرف أن منشأ هذا المتحور وغيره من المتحورات هو دول أفريقية وبالأخص دولة جنوب أفريقيا، حيث يوجد حوالى 10 ملايين من المصابين بفيروس الايدز، الفيروس الذي يستهدف جهاز المناعة في الجسم، وبالتالي هناك 10 ملايين شخص مناعتهم ضعيفة، وبالتالي عند الإصابة بفيروس كورونا، ومع المناعة الضعيفة الموجودة أصلاً، ومع غياب التطعيم الكافي، فإن فيروس كورونا يجد الارضية الخصبة للبقاء والتكاثر، وبالتالي التحور الى أشكال أكثر انتشاراً وربما أكثر خطورة، حيث إننا نحتاج الى وقت ومعطيات أكثر للتعرف على مدى خطورة أوميكرون، وهذا ما حدث بالضبط.
وهذا ربما يفسر الهلع أو القلق في دول العالم من هذه النسخة المتحوّرة، رغم الشوط الكبير الذي قطعته دول كثيرة في إعطاء اللقاحات، وإلى حد ما عندنا، وهذا يدل على ان هذا الفيروس يملك وسوف يملك القدرة على التحور ليصبح أقوى وربما مقاوماً تماماً لكافة اللقاحات في المستقبل، ولذا علينا أن نتوقع نسخاً أخرى من متحورات الفيروس قريباً، وبالطبع بصورة أكثر خطورة وأوسع انتشاراً وأصعب فيما يتعلق بفعالية اللقاحات.  
والتاريخ القريب للفيروس يثبت ذلك، حيث كان هناك تصاعد مطّرد في الإصابات بفيروس كورونا وفي سرعة تحوره خلال فترات ليست متباعدة، وهذا يدل على أن الغموض ما زال يكتنف هذا الفيروس، وأنه ورغم الدراسات والأبحاث والأموال التي تم ويتم إنفاقها من أجل التعرف أكثر عليه، إلا أن العلماء والمختصين لم ينجحوا بعد في معرفة آلية وسرعة انتشار هذا الفيروس، وطبيعة عمله أو تأثيره على الأجسام المختلفة لبني البشر، وكيفية إحداثه الطفرات أو التغيرات التي يقوم بها.
 ورغم بارقة الأمل التي انتجتها اللقاحات في العالم، بات هناك تخوف حقيقي من مدى انتشار وخطورة الطفرات المتواصلة من الفيروس، حيث أصبحت هذه الطفرات وبغض النظر عن منشأ أو مكان اكتشافها هي السائدة في العديد من بقاع العالم، وما زال هناك تخوف حقيقي بأن ينجح الفيروس في التحور الى طفرة لا تنفع معها اللقاحات الحالية، وبالأخص أننا نسمع هذه الايام عن بعض الطفرات التي تصيب مجدداً من أصيبوا بالفيروس أو ممن تم تطعيمهم، أي أن الاجسام المضادة التي تم إفرازها لا تقاوم الفيروس، وهذا من المؤشرات الخطيرة والمقلقة على ما يمكن أن يخبئه المستقبل.
وفي ظل هذا التخبط والتقصي والمراجعة وتغيير السياسات وأصحاب القرار، وبناء على نتائج دراسات أو أبحاث جديدة، يتضح تدريجياً أن هذا الفيروس سوف يبقى بيننا ولفتره طويلة، وبأن الحديث عن لقاح سليم وفعال، سواء من خلال الجرعة الثالثة أو الرابعة، أو عن إجراءات أو قيود، لن تقضي على هذا الفيروس، وفي احسن الأحوال سوف تخفف منه ولفترة معينة، حيث من الواضح أنه سوف تكون هناك موجات أخرى من التحورات الأشد فتكاً والأكثر انتشاراً، وبأن الواقع سوف يفرض على العالم البحث عن أفضل الأوضاع والأحوال للتعايش معه، وبأن ذلك سوف يكون الإستراتيجية الواقعية خلال المستقبل القريب والبعيد.
ومع مواصلة الانتشار المذهل لمتحور «أوميكرون»، ومع تواصل غياب العدالة الصحية، سواء من حيث توفير اللقاحات أو المعلومات أو الأدوية القادمة للتعامل مع «كورونا»، ومع مواصلة التخبط والارباك العالمي، والاعتماد حتى الآن على التعامل مع الأحداث وليس استباقها، ورغم أن دولة مثل بريطانيا تهدف الى تطعيم معظم السكان أي حالي 50 مليون شخص بالجرعة الثالثة خلال الفترة القريبة.
 ورغم ان شركات عالمية ضخمة تتسابق من أجل ضخ المزيد من اللقاحات وربما الأدوية أي العلاجات في الأسواق، ورغم الأبحاث والدراسات المحمومة التي يقوم بها معهد الصحة الأميركي في هذا الصدد، حيث وصلت الإصابات الى 50 مليوناً والوفيات تعدت الـ 800 ألف، ورغم انشغال السياسيين في العالم وعلى رأسهم الرئيس الأميركي بـ «كورونا» وتحوّراته، إلا أن التحوّرات من فيروس كورونا سوف تتواصل وتتعمق وتكون أكثر خطورة وأسرع انتشاراً، وستصبح مزمنة وجزءاً من حياة البشر والعالم والاقتصاد والسياسة، في ظل غياب العدالة الصحية وتواصل الاحتكار للقاح والدواء والمعلومة من قبل دول أو فئات قليلة في العالم.