ببساطة، يمكن تشخيص صورتين متناقضتين لقطاع غزة: الأولى لمن يرى القطاع من خارجه، سواء من الضفة أو بلدان الشتات، والثانية يراها من يعيشون داخل القطاع، ومن يتابعون أموره وأخباره عن كثب وباهتمام.
في الصورة الأولى يظهر القطاع الشامخ، الصامد، المحاصَر ظلماً وعدواناً، حيث تتجلى المقاومة بصورتها المثالية، المقاومة التي قصفت تل أبيب، وأذلت إسرائيل. وهنا لا يرى المشاهد سوى الصواريخ وهي تنطلق مخلفة وراءها سحباً غازية بمشهد هوليودي مثير، وأبطال المقاومة الملثمين، واستعراضات "كتائب القسام" وهي تجوب شوارع القطاع، والتصريحات النارية والخطابات المطولة، واحتفالات الانتصارات الربانية، ومسابقات لأفضل تصميم لمنبر صلاح الدين بعد تحرير الأقصى من براثن الصهيونية، ومؤتمر "وعد الآخرة" الذي يتحدث عمّا يشبه إبادة إسرائيل، وكيفية التصرف مع من تبقى من اليهود المنهزمين، وكيفية توزيع ممتلكات الدولة المهزومة... إلخ.
وإذا كان المشاهد أكثر موضوعية سيرى آثار القصف الإسرائيلي على الشوارع والبيوت، والأبراج المهدمة، وآثار الحصار.. لكنه سيمر عليها مرور الكرام، فغزة لا يليق بها إلا التمجيد والتغني بالبطولات، والصمود الأسطوري، ومآثر الشهداء، وزغاريد النسوة وهنّ يودعن أحباءهن المضرجين بدمائهم، والمحمولين على الأكتاف. سيقول في نفسه: كل هذا غير مهم، المهم هو المقاومة، وقيادة المقاومة، ونهج المقاومة، وإن الوطن يستحق التضحية، وإن النصر ثمنه غال.
أما الصورة التي يراها أبناء القطاع بأعينهم المجردة، ويلمسونها صبح مساء، ويعيشونها ساعة بساعة ويكتوون بتفاصيلها، وتداعياتها، هي صورة مغايرة ومختلفة كلياً. وإن كانت شديدة الوضوح بالنسبة لهم، فإنها مغيّبة، وضبابية، ومنقوصة لمن هم خارج القطاع، وإذا تكشفت لهم (أو أجزاء منها) سيُصابون بالصدمة، وقد ينكرونها، وسيبررون كل ما هو غير مبرر، وسيتغاضون عن كل ما هو واضح، وسيقولون: إن مروجيها أعداء المقاومة، ومنهزمين، وانبطاحيين، وأوسلويّين.
ولتوضيح هذه الصورة ينبغي رؤيتها من بعدين على الأقل: الأول سياسي، والثاني واقعي يعنى بتفاصيل الحياة اليومية.
في الجانب السياسي، سنرى غزة متورطة (رغماً عنها) في مشروع إسرائيل المزدوج: "لفظ غزة وابتلاع الضفة"، وهو مشروع قديم جديد، أي التخلص من غزة، وترك مصيرها للمجهول، وتحميل المسؤولية لمن يحكمها، وأكثر ما يساعد إسرائيل في هذا الجانب وصم "حماس" بالإرهاب. وفي الضفة مواصلة الاستيطان والضم، وأكثر ما يساعدها في هذا الاتجاه استمرار الانقسام، وضعف الحالة الفلسطينية. حيث في المحصلة باتت غزة كياناً منفصلا تحكمه "حماس" وتخوض مفاوضاتها وحدها، والضفة يجري قضمها، والسلطة تخوض مفاوضاتها وحدها.
في هذا الجانب، سنرى "حماس" وهي تخوض تجربتها السياسية دون إدراك حقيقي منها لموازين القوى وطبيعة المعادلات السياسية للإقليم، وأبعادها الدولية ومناخاتها السياسية العالمية، ظانّة أنها تستطيع فرض نفسها كطرف إقليمي فقط من خلال اللعب بالكلمات، والتركيز على مصطلحات معينة، ومعتقدة أن الأمر يتعلق بكفاءة المفاوض فحسب، وهذه الحسابات الخاطئة أوصلتنا جميعاً إلى تلك النهايات الحزينة.
وسنرى محاولات "حماس" للتأقلم مع الشروط الدولية (الوثيقة المعدلة، 2017)، حيث جوبهت بسلسلة مطالب إسرائيلية تعجيزية، ذلك لأن إسرائيل لا تريد "حماس" معتدلة وواقعية، تريدها تماماً كما هي، ومصنفة كمنظمة إرهابية، حتى تعفي نفسها من تبعات الحل السياسي، وتريد تمديد عمرها (ولكن بعد إضعافها)، بدليل موافقتها على إدخال الأموال القطرية، والتي هدفها الوحيد إطالة عمر الانقسام.
وهذا المسار مغلق كلياً، ولن يفضي إلى أي حل؛ فإسرائيل يهمها استمرار الانقسام، و"حماس" يهمها ديمومة حكمها، وبعض الأطراف الإقليمية تدعم وتمول كل ذلك.
في الجانب الواقعي، يمكن لأي مشاهد محايد رؤية الآتي: قطاع محاصر كلياً، بنية تحتية مدمرة، تردي كل أنواع الخدمات: مياه ملوثة، كهرباء مقطوعة، أزمات متلاحقة ونقص في كثير من السلع الأساسية، غلاء، بؤس، وفقر مدقع، نسبة بطالة هي من بين الأعلى في العالم، حدود مقفلة، ومنع من السفر، آفاق مسدودة كلياً أمام جيل الشباب، حيث فرص تحقيق الذات أو التطور منعدمة، ومستقبل قاتم ومخيف، أمراض نفسية آخذة بالتفشي بشكل مرعب، وهذه أثرت سلبياً وبشكل مقلق على واقع الحياة، ليس فقط من خلال سلسلة جرائم غير مسبوقة، بل حتى في تغير أنماط الحياة وبشكل آخذ في الانحدار. كل هذا الواقع الضاغط والمحبط دفع بالآلاف للهجرة من القطاع، وأغلبيتهم الساحقة من الشبان والكفاءات.
ومن المؤسف حقاً، أنه بعد أن كانت العودة إلى القطاع حلم كلّ غزاوي مغترب، وكان مستعداً لدفع كل ما يملك من أجل العودة.. اليوم، أي شاب مستعد لأن يدفع آلاف الدولارات لعصابات التهريب حتى يهرب من واقع غزة المخيف، ومستعد من أجل ذلك أن يركب البحر وهو على علم أنه قد يغرق ويصبح طعاماً للسمك!
لماذا حصل كل ذلك؟ وكيف؟ للإجابة سأقتبس بعضاً مما كتبه الصديق الغزاوي جميل عبد النبي:
"أحمّل حماس المسؤولية الأكبر، لأنها الحاكم الفعلي للقطاع، وهي من اختارت، وقررت أن تحكم غزة بإرادتها، وقد فعلت ذلك بكامل وعيها، وخاضت لأجل ذلك حرباً شرسة، فقد الفلسطينيون فيها وحدتهم، والكثير من الدماء.
وعلى من اختار أن يحكم في ظروف معقدة كتلك التي يعرفها الجميع، أن يكون قد ادخر في جعبته حلولاً للإشكاليات المتوقعة، والتي من شأنها أن تمس حياة المحكومين، بل أن توقف حياتهم، وتحولهم إلى مجرد هياكل شبه آدمية، لا حاضر لها، ولا أمل في المستقبل.
ماذا تتوقع حماس من الاحتلال، طالما تصر على تصنيف نفسها كحركة مقاومة؟
إما أنها لا تُحسن قراءة السياسة، أو أنها أقدمت على مغامرة لا تمتلك مؤهلاتها، أو أنها تظن أن هذا الثمن طبيعي من أجل مشروعها، الذي تظن نفسها قادرة عليه. مع علمنا أنّ قدرة حماس على التحرير من الأساس كانت مجرد وهم، وهي الآن تتوسل إلى طوب الأرض ليحفظ لها بقاءها في غزة، التي لا تشكل من فلسطين سوى 1.3%.
فلا المفاوضات ولا حماس قادرة على التحرير، وأكثر ما يستطيعه الفلسطينيون في هذه اللحظة هو البقاء في فلسطين، وتعزيز هذا البقاء، مع بعض الفعل الذي يبقي جذوة الصراع، حتى لا يظن العالم أن قضية فلسطين قد انتهت.
في المحصلة: ماذا استفدنا من حكم حماس لغزة؟ وماذا استفادت حماس نفسها؟ إلا إن كان هناك خلط بين مصلحة الأشخاص، ومصلحة التنظيم، ومن ثم مصلحة الشعب الفلسطيني!
لا حماس حررت، ولا هي أطعمت، ولا حتى استطاعت أن تحافظ على ديمومة المقاومة، بل حشرت نفسها في إطار الحرب، والحروب لا بد أن تنتهي، كما أننا لا نستطيع أن نخوض حرباً كل سنة، ولا نريدها، لأننا بعدها سنسعى فقط لاستعادة ما قبلها.
نصيحتي لحماس: دعوكم من فكرة الحكم، فنحن تحت الاحتلال، ومن يحكم تحت الاحتلال لن يستطيع الجمع بين المقاومة والحكم، إلا على جماجم وهياكل شعبه الذي سيجوعه الاحتلال".