انشغلنا على مدى سنوات طويلة في تعداد عدد المستوطنات، وفي ازدياد أعداد المستوطنين.
حسناً فعلنا على كل حال، لأن خطر الاستيطان هو خطر حقيقي على وجودنا وعلى كامل مستقبل هذا الوجود على أرضنا في القدس والضفة وفي الداخل أيضاً.
"استغنت" إسرائيل عن الاستيطان في القطاع لأسباب من المفروض أننا بتنا نعيها، ونعي دوافعها وأهدافها، وخصوصاً الانقسام والفصل، والذي يخرج الكتلة "الغزية" إلى "هوامش" الصراع الديموغرافي المنتظر في العقود القادمة، ويسهل على إسرائيل التهام الضفة والقدس، وبما ينهي إمكانية قيام دولة فلسطينية، أو أي تواجد وطني كياني من شأنه أن يتحول إلى دولة وطنية مستقلة، أو هكذا ترى إسرائيل. وهكذا تخطط على أرض الواقع.
قبل كل، وأي محاولة لقراءة التغير في دور الاستيطان والمستوطنين بمعزل عن الأخطاء التفاوضية القاتلة التي وقعنا بها قبيل أوسلو وبُعيده وبعده، ستكون محاولة فاشلة وعاجزة ومراوغة سياسياً بكل تأكيد.
وكان يجب ألا نوافق مطلقاً على "تعويم" مسألة الاستيطان تحت أي مبرر أو ذريعة.
وأظن ـ وليس كل ظن إثما، وإنما بعضه فقط ـ أن الخطأ الاستراتيجي على هذا الصعيد قد تكرس عندما قبلنا "واقعياً" بالتمديد للمرحلة الانتقالية، خصوصاً أننا لم ننتبه لواقعتين كان لهما ـ وما زال ـ أهمية استثنائية، جرى التعمية عليهما أحياناً، وجرى "تجاوزهما" بأقل درجة من اليقظة والحذر.
الواقعة الأولى مفادها أن رابين رفض رفضاً باتاً ومطلقاً أن تتضمن اتفاقيات أوسلو أي (محددات مقيدة) إلزامية، وبالكاد "وافق" على التعويم الذي أشرنا إليه، وهدد بالتراجع الكامل عن كل الاتفاق في حال "صمّم" الفلسطينيون على صيغة من هذا القبيل، أي صيغة إلزامية وقف الاستيطان.
أما الواقعة الثانية فمفادها أن شمعون بيريس، قد قال في مرحلة لاحقة للتفاوض إنه قد "فوجئ" بعدم طرح الجانب الفلسطيني "لإنهاء" الملف الاستيطاني في قطاع غزة منذ الأيام الأولى للاتفاق، مضيفاً إن إسرائيل كانت ستوافق على إنهاء هذا الملف على الفور، حسب ما ورد على لسانه آنذاك. وهنا نتذكر لماذا انسحب رئيس وفدنا المفاوض في واشنطن من المباحثات حيث عزا القائد الوطني المرحوم، د. حيدر عبد الشافي هذا الانسحاب إلى مسألة تعويم الاستيطان، وعدم تضمن اتفاقيات أوسلو لصيغة إلزامية بوقف أو تجميد الاستيطان.
المهم من هذا كله أن الاستيطان بالنسبة للضفة والقدس ليس قابلاً "للمساومة" من وجهة نظر المشروع الصهيوني، بل هو ليس قابلاً للمساومة حتى بالنسبة لمحاصرة القرى والبلدات والمدن الفلسطينية في الداخل الفلسطيني نفسه.
وبالعودة إلى انشغالنا ـ بعد هذه المقدمة الطويلة ـ بأعداد المستوطنات والمستوطنين فإن هذا الانشغال ما زال دون رصد تغير دور هذه المستوطنات وهؤلاء المستوطنين. صحيح أن الباحثين الفلسطينيين انتبهوا وتنبهوا مبكراً للكثير من الاستهدافات الإسرائيلية للاستيطان في خارطة توزيعه على منابع المياه ومصادره وأحواضه الجوفية، وصحيح أن هؤلاء الباحثين والمؤسسات التي عملت في هذه الحقول قد تنبهت إلى الأهداف "الدفاعية" والأمنية للاستيطان، وبالتالي ربطت ما بين الأهداف المفصلية للاستيطان في جانب تموضعها الجغرافي، و"فرّقت" بين هذا النمط من التموضع الاستيطاني وبين المستوطنات "الاقتصادية"، اعتقاداً منها أحيانا بأن هناك من المستوطنات ما هو قابل للإزالة في أي "حل" قادم، وأن هناك ما سيظل قائماً بعد أن يتم "تكتيله" في مجمعات كبرى تحت مسمى الكتل الكبيرة، إلا أننا ما زلنا لم نرصد ونقرأ الدور الجديد للمستوطنات والمستوطنين.
الذي أراه حول هذا الدور أن إسرائيل تخطط لكي يصل عدد المستوطنين في الضفة في غضون أقل من عدة سنوات، أي أربع إلى خمس سنوات إلى أكثر من مليون، لكي يصار إلى تصوير الصراع في الأرض المحتلة في ذلك الحين وكأنه "صراع أهلي" بين المدنيين الفلسطينيين و"المدنيين" الإسرائيليين" وبذلك تصبح مهمة الجيش الإسرائيلي المباشرة هي "فض" النزاع بين هؤلاء "المدنيين"، وفك الاشتباكات بينهم.
هنا "الدولة" والجيش يقفان خلف المستوطنين من حيث التخطيط والتنسيق والتنفيذ، وتقوم بالتدخل العسكري المباشر في حال أبدى الفلسطينيون أي أشكال من المقاومة لهؤلاء المستوطنين، باعتبار أن ذلك يندرج في إطار "الإرهاب" الفلسطيني، في حين أن كل عمليات الاستيلاء على الأرض، ومصادرتها، وسرقة الثروات، وكل سيطرة على الموارد الفلسطينية هي أعمال مشروعة ومدعومة ومحمية وتحظى بالتشجيع والإسناد الكاملين.
بهذا المعنى فإن إسرائيل من الناحية الرسمية المباشرة أصبحت تسند مهمة السيطرة على الأرض للمستوطنين مباشرة، وتحول الاستيطان من "منتج" احتلالي إلى الأداة الرئيسة لتكريس هذا الاحتلال.
باختصار فإن وصول نفتالي بينيت إلى سدة رئاسة الوزراء في إسرائيل ليس مصادفة سياسية عابرة، وهي ليست مفارقة عرضية، وإنما هي من حيث الجوهر التتويج الفعلي للتحولات السياسية في إسرائيل.
وعندما "تتصدى" إسرائيل لبعض "السلوكيات" العنصرية والفاشية، مثل حرق الفلسطينيين أحياءً فإن إسرائيل في الواقع تخشى من هذه السلوكيات في الخروج عن الإيقاع الرسمي المعدّ لدور المستوطنات والمستوطنين.
ماذا نريد وضوحاً أكثر من الوضوح الذي تتحدث به إسرائيل عن "استحالة" "اقتلاع" مستوطنة واحدة أو مستوطن واحد. بل إن العكس تماما هو المطلوب، وهو أن تتحول هذه المستوطنات إلى معولٍ وأداةٍ رئيسة لإعادة اقتلاع الفلسطينيين، وتحويل حياتهم إلى جحيم تمهيداً لتجهيز الظروف المواتية لـ"الترانسفير" الصامت المتواصل وانتظار اللحظة "التاريخية" المناسبة للترحيل الجماعي الذي سيحسم الصراع نهائياً كما تخطط إسرائيل.