هل يوجد دين بلا مذاهب؟ هل نشوء المذاهب نتيجة حتمية لنشوء الدين نفسه؟
لا تولد الأفكار العظيمة بغتة، ولا تنشأ من فراغ؛ وإنما هي حصيلة تواصل معرفي وروحي ووجودي، وحصاد تراكم ثقافي طويل، ونتاج تلاقح ظروف ذاتية وموضوعية.. تبدأ صغيرة، أو كفكرة عظيمة ولامعة، ولكنها تحتاج مساراً تاريخياً عسيراً حتى تنضج.
الشيء ذاته ينطبق إلى حد كبير على الأديان، والتي تخضع للقوانين الاجتماعية نفسها، وتحتاج لمسار تاريخي ممتد حتى تتبلور بصيغتها النهائية، خلاله تتفرق وتنشأ عنها تيارات ومذاهب وطوائف.. ولإثبات ذلك نحتاج أولاً لتتبع مسار تطور الأديان التاريخي والاجتماعي؛ حيث سنلاحظ انبثاق المذاهب والطوائف عن كل دين: اليهودية في بداياتها تفرقت إلى فريسيين، وصدوقيين، وأسينيين، وسامرة.. ثم في مرحلة لاحقة إلى شكناز وسفارديم، وما نشأ عنهما من تيارات أرثوذوكسية وإصلاحية ومحافظة ومندمجين وحريديم، فضلاً عن الانقسامات التي ظهرت بعد الصهيونية.. كما تفرق المسيحيون الأوائل إلى غنوصيين، وأبيونيين، وأريوسيين، وانتحاليين، وماركونيين، ونساطرة، ويعاقبة، وأقباط.. ثم إلى أرثوذوكس، وكاثوليك، وبروتستانت، وأنجليكانيين، وما نشأ عنها من آلاف الكنائس.. وتكررت الظاهرة نفسها في الإسلام.. فظهر السُنّة، والشيعة، والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، واليزيدية، والأشعرية، والنصيرية، والإباضية، والموحدون، والسلفية، والوهابية.. فضلاً عن عشرات الجماعات والأحزاب ذات المرجعيات الفكرية والسياسية المختلفة.
ونحتاج ثانياً لمشاهدة أوجه الشبه بين جميع الأديان في سماتها العامة وقسماتها الرئيسة، وأن نرى التقارب الأوضح بين الأديان الإبراهيمية بالذات.. ثم تتبع مديات التأثر والتأثير المتبادل فيما بينها، وحتى مع الأديان الأيقونية التي وجدت في فترات موازية أو سابقة لها.. بل وقد نجد تأثرها بالموروثات الثقافية والأساطير الشعبية للشعوب والحضارات القريبة، بما فيها الثقافات الوثنية؛ فكل دين تأثر بغيره، وأثّر عليه، أخذ منه، وأعطاه.
وبتتبع المسار التاريخي والسيسيولوجي، وبتفحص وتأمل لمحتوى ومضامين وتعاليم تلك الأديان سنجد امتداداً طبيعياً وتواصلاً يكاد يكون منسجماً ما بين اليهودية والمسيحية والحنيفية والأبيونية وصولاً إلى الإسلام؛ والشواهد على ذلك كثيرة؛ وهذا لا يتضمن أي انتقاص أو نقض للأديان، بل هي دراسة تاريخية تساعد على التعرف إلى الأديان بشكل أكثر عمقاً، وتساهم في خلق ثقافة أكثر تسامحاً مع الأديان الأخرى، وأكثر تقبلاً للاختلاف فيما بينها.
من وجهة نظر سيسيولوجية تعتبر تلك الانقسامات ظاهرة طبيعية؛ حيث تبدأ الأديان (وكل المذاهب الفكرية والفلسفية والأخلاقية) بدايات بسيطة، ترتكز على شخصية النبي، أو الفيلسوف، أو المصلح الاجتماعي)، تبدأ نقية ومثالية، يلتف من حولها في البدايات المخلصون والباحثون عن النور والهداية، ولكن بعد وفاة الشخصية الأولى، وتكاثر الأتباع وتعاقب الأجيال، يبدأ الدين بأخذ مسار تطوري آخر، ومختلف..
حيث تغرق في التفاصيل والمستجدات، ثم تأتي التفاسير، والشروحات، ومن ثم الأساطير والمبالغات.. ثم تنشأ طبقة من رجال الدين، وتبدأ بتلمّس مصالحها الخاصة، بعد أن كانت مهمتها شرح الدين وتبسيطه، والتبشير به.. وفي نفس الوقت، تكون الطبقة السياسية الحاكمة (متحالفة معها الطبقة التجارية والنخب العسكرية) تعمل على الاستفادة من هذا الدين بما يخدم مصالحها، وبهذا التداخل تدخل تطويرات جديدة على الدين.
هذا المسار التطوري السيسيولوجي ينطبق تقريباً على كل الأديان؛ حيث يتأثر في سياق تطوره وأثناء مسيرته التاريخية بالنزعات المادية، والغرائز البشرية لأتباعه، وباجتهادات وتصورات وخلافات فقهائه ورواده، وبالظروف الموضوعية (السياسية والاقتصادية)، ويتأثر حتى بالجغرافيا، والتقسيمات الإثنية والثقافية.
الدين من الناحية النظرية معطى ثابت؛ إله يُعبد، ونبي مرسل، وكتاب مقدس، وعقيدة واحدة، وتعاليم راسخة، ومفاهيم محددة.. لكنه على أرض الواقع يتخذ أشكالاً وتمظهرات اجتماعية وسياسية وتشكيلات طائفية متعددة، شأنه شأن أي ظاهرة اجتماعية، فليس هناك دين ولا فكر لا ينشطر، لأن ذلك ضد الطبيعة، فلا وجود لدين خالص، إلا كمفهوم عام. فالدين لا يكتمل بين يوم وليلة، بل يأخذ مساراً تطورياً قد يحتاج قروناً حتى يتخذ شكله النهائي.
وهذا التحليل العلمي القائم على تتبع المسارات الاجتماعية والثقافية بمنهج تاريخي من المفترض ألا يتعارض مع التفسير الديني العقائدي، فالتشابه بين الأديان الإبراهيمية من وجهة نظر دينية، وبحسب ما يعتقد به المؤمنون كافة نتيجة طبيعية، سببه أنها من لدن رب واحد؛ الله سبحانه الذي أرسل رسله وأنبياءه للدعوة لدين واحد.. ولأن الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل والقرآن) كما يعتقد المؤمنون كافة هي منزلة من نفس الإله الخالق.
وخلاصة القول إننا أمام وجهتي نظر، الأولى: تقول إن الدين نزل من السماء بصيغة محددة، وبالتالي فهو معطى إلهي ثابت ومطلق غير قابل للتطور، يظل بنسخته الأصلية مهما تقادم عليه الزمن، ومهما مرت عليه أحداث وتقلبات.. بمعنى أنه قالب صلب لا يتأثر بما يحيط به من ظروف (ومن الواضح أنها وجهة نظر دينية مثالية لا تاريخية).. أما وجهة النظر الثانية (أكاديمية/ تأريخية) فتقول إن التشابه بين الأديان، وبين الكتب المقدسة، لأنّ منشأها وتطورها ومسارها خضع لقوانين اجتماعية معينة.. ولأنها جاءت امتداداً تاريخياً لبعضها، تأثرت ببعضها البعض، وتفاعلت فيما بينها، شأنها شأن أي ظاهرة اجتماعية وتاريخية أخرى، لأن صيرورتها نتاج تفاعل إنساني بشري، حتى لو كانت منزلة من السماء.
وطالما أن انبثاق المذاهب والطوائف عن كل دين مسألة طبيعية وحتمية، يبقى على المؤمنين مهمة التكيف مع هذه الحقيقة، أي تقبل الاختلافات، والتعايش مع المختلفين (وترك حسابهم والفصل بينهم والحكم عليهم لخالقهم) وخلاف ذلك، فإن الخيار الآخر هو الاقتتال والتناحر، لأن كل فريق سيظل مصراً على أنه صاحب الحقيقة، والقائم على الحق، والممثل الأصيل للدين.. وهذا ما حصل تاريخياً، وما زال يحصل، وما زلنا ندفع أثمان هذا الموقف المتعصب واللاعقلاني.. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد». (الحج، 17).
كما أن سمة التطور (لأي دين) تكسبه قدرة على التكيف مع المستجدات، وتمنحه المرونة اللازمة للاستجابة لتطورات الأزمان وتوالي العصور، وتبقيه حيوياً متجدداً. وخلاف ذلك يتحول تدريجياً إلى دين أيقوني جامد، ومغترب عن زمانه ومكانه.
«لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجا وَلَوْ شَاءَ اللَهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَة وَاحِدَة». (المائدة، 48).