صرّح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتعليق، يوم الاثنين الماضي، استفز الجانب الإسرائيلي وأثار تكهنات في الإعلام الغربي والعالم، بخصوص موقفه من الانتفاضة الراهنة في فلسطين؛ وذلك عندما وصفها بأنّها "مبررة"، وتكهنات حول ماذا تعني تصريحاته عملياً على الأرض؟
عباس لم يعلن نفسه قائداً للانتفاصة، ولكنه أيضاً لم يحاول إعاقة أو التشكيك في تبلور قوى جديدة. إذ قال في مؤتمر لمكافحة الفساد، في رام الله: "نحن لا نملك أن نقول للشباب لماذا أنتم خارجون. خرجوا لأسباب عديدة، منها استمرار الاستيطان والانتهاكات للمقدسات". وقال: "الشباب يتجولون.. لا يرون أساسا لدولة فلسطينية، تراكم اليأس في عقولهم وقلوبهم.. ما الحل؟".
هذه التصريحات لا تدّعي قيادة المنتفضين؛ هي ليست كرسائل خليل الوزير للقيادة الوطنية الموحدة في الانتفاضة الأولى، وليست كشعارات ياسر عرفات في الاننفاضة الثانية "عالقدس رايحين شهداء بالملايين". هي نوع من الإقرار بتفهم الغضب الشعبي، من دون ادعاء قيادته، ومن دون دخول في التفاصيل، وفيما إذا كان يؤيد كل مظاهر الهبّة، بما فيها الطعن مثلا.
بالمثل، أطلق قادة في "حماس" تصريحات ربما تتجاوز طرح الرئيس عباس، المتحفظ بطبيعته، لتمجد الانتفاضة بحماسة شديدة، كقول اسماعيل هنية، القيادي في الحركة، إن "انتفاضة القدس تعد أكبر تحول استراتيجي في المنطقة". ولكنه تشابه مع عباس في خطاب يقترب من الإقرار بأنّ هذا حراك منفصل عن الفصائل، وذلك عندما يقول مثلا إن "الانتفاضة أوجدت فلسطينياً جديداً".
لا شك أنّ مثل هذه التصريحات (وتحديداً تصريحات عباس)، تساهم في بلورة رأي عام أكثر دعماً للشباب المنتفض، وللحراك الشعبي، وهي تعكس يأساً وإحباطاً عند الرئيس الفلسطيني، ربما أكثر عمقاً من الشبان الفلسطينيين. فهو يكشف أنّه تم إبلاغه مؤخرا (لا يكشف من أبلغه ذلك)، أنّه حتى العودة لاتفاقيات أوسلو "غير واقعية وغير ممكنة". وعندما يصارح عبّاس الشعب بهذه الحقيقة، فهو في الواقع يقدّم المزيد من الأسباب التي تبرر الهبّة الشعبية وتؤكدها. وهو يرفض لعب دور من يحبط المنطق أو الفكرة التي تقف خلف تحرك الشباب الغاضب، ويصبح لسان حاله بهذه الحالة: فلنترك الأمر للشبان ولقرارهم.
سيكون ضرورياً أن ننتظر إنّ كان هذا الموقف سيتحول إلى قرار استراتيجي مستمر، وإن كان سيعد فعلا ضوءاً أخضر لتحرك شبابي وجماهيري ضمن منطق وسياق أنّ الالتزام باتفاقيات أوسلو من طرف واحد بات الخط الأحمر الذي رفضته القيادة الفلسطينية، وهو التزام يبدو أنّه كان يشكل المطلب الأميركي والإسرائيلي في الآونة الأخيرة.
إذا بقي الأمر في هذا المسار، فهو مؤشر وضوء أخضر لقوى سياسية ومدنية، وشرائح اجتماعية، أنّها في الوقت الذي لا يجب أن تنتظر خطة عمل، أو قيادة وبرامج تقدمها الرئاسة الفلسطينية، والفصائل وبناها الراهنة، فإنّ لا أحد سيشكك أو يعيق تطوير هذه الشرائح الشبابية والاجتماعية، سواء أكانت من داخل الفصائل أو من خارجها، لبرامج ومشاريع تحرك جديدة، خارج سياق "أوسلو". وهو ما يعني بشكل أو بآخر إفساح المجال أو القبول بتشكل بنى تنظيمية وقيادية جديدة، وذلك استناداً لقناعة عبر عنها الرئيس الفلسطيني، بأنّ المجتمع الدولي، الذي راهن عليه مطولا، لا يعطيه شيئاً ليقدمه لشعبه، وليبرر له أي دعوة للتوقف عن المواجهات والاحتجاجات اليومية.
وافق الرئيس الفلسطيني على تعديل حكومي، في اليوم ذاته الذي عبر فيه عن قناعته بأنّ الهبّة مبررة. وهذا قد يجعله كمن يقول إنّه سيستمر في محاولات إدارة الحياة اليومية والدبلوماسية بقدر الممكن. ولكنه في الآن ذاته ليس في موقع يسمح له بمعارضة الهبّات الشعبية. وبالتالي يصبح الفلسطينيون أمام خطين متوازيين: الأول، الحفاظ على ما يمكن من مظاهر السلطة ومؤسساتها، لكن من دون إعاقة حركة شعبية جديدة تتبلور، وقد تغير كل المعادلة. وقد يكون مثل هذا التعبير من الرئيس الفلسطيني، هو تصريح بشكل آخر، عن تجميد جزئي لاتفاقيات أمنية وسياسية رداً على تنصل إسرائيل وواشنطن من باقي الاتفاقيات، وتحذير بأنّ رده على الوضع الراهن هو عدم إعاقة تبلور بنى وحركات وطنية جديدة ومختلفة عما أنتجته "أوسلو".
عن الغد الاردنية
حركة "فتح": صمت العالم بمثابة ضوء أخضر لحكومة نتنياهو
04 أكتوبر 2023