في مثل هذه الأيام ينصرف عام ويأتي الجديد وتصبح تلك النقلة هي مناسبة التأمل فيما مضى وما هو قائم، بل وأيضًا فيما هو قادم، وإذ يطوي عام 2021 أوراقه ويستأذن في الانصراف، فإن علينا أن نودّعه بما يستحقه من عبارات التكريم وإشارات الاستهجان في نفس الوقت، فلقد كان عامًا ليس كسائر الأعوام سيطرت فيه شدة الوباء وسرعة انتشاره في كافة أنحاء المعمورة، لكى نتأكد أن البشرية تواجه من الآن فصاعدًا تحديًا قديمًا يتصل بغزو الأمراض وانتشار الأوبئة، في محاولة غامضة لإحداث التوازن بين سعة الكون وحجم البشر في الكوكب بمجمله، ولقد تعددت التفسيرات وتكاثرت التأويلات.
ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أننا نواجه منذ بداية عام 2020 موجات متتالية لفيروس سريع الانتشار شديد الفتك أحيانًا، كما أن اللقاحات المضادة له هي الأخرى محل جدلٍ كبير وتنافس تجاري محموم، حتى أصبح المواطن العادي في حيرة من أمره لا يدرك أين الصواب، فالشائعات كثيرة والتفسيرات ملتوية والتأويلات بغير حدود، ويهمني الآن ونحن نودع هذا العام- 2021- أن أتمنى ألا تأتي الأيام المثيلة من العام المقبل إلا وقد انتصر العلم على المرض وقهرت إرادة الحياة كل محاولات الفيروسات القاتلة من غزو أجساد البشر، حتى تتهيأ الإنسانية للعودة إلى الإقلاع نحو المستقبل بثقةٍ ويقين، فما أكثر الموارد التي تبددت والمكاسب التي أُهدرت على مرأى ومسمع من إنسان العصر الحديث الذي يلهث وراء الأخبار ويلتقط الشائعات ويتسقط المعلومات بحثًا عن شعاع الأمل الذي لا يبدو وشيكًا، ولعلنا نطرح الآن في هذا الأمر ملاحظات ثلاثًا:
أولًا: إن رحيل عام 2021 لا يعنى أن المعاناة سوف تنتهى أو أن هناك مواقيت ترتبط بدورة الزمن، حيث تضع حدًا للوباء الذي ابتليت به البشرية منذ نهاية خريف 2019، فالشواهد تؤكد أن الطريق طويل وأن المعاناة سوف تتواصل ما لم تتحقق العدالة الدولية في مسألة توزيع اللقاحات وتعميم الأمصال دون تفرقة بين دولة وأخرى أو شعبٍ وآخر، فلقد أثبتت محنة «الكورونا» بتوابعها أن الإنسان مازال في عجلةٍ من أمره بحثًا عن المكاسب على المدى القصير دون أن يمتلك نظرة بعيدة يستشرف بها المستقبل وينأى بنفسه عن العنصرية والذاتية والأنانية حتى يسهم في صُنع حياةٍ أفضل يسودها التعاون والتضامن ويعم فيها السلام على الأرض.
ثانيًا: لقد أثبتت محنة «الكورونا» بكل تبعاتها أيضًا أن الروح السائدة في عالمنا مازالت تحتاج إلى جهودٍ ضخمة، لكي تمضي على الطريق الصحيح نحو غاياتٍ واضحة تحافظ على الجنس البشري وتضمن استمرار بقائه.
ثالثًا: لقد تأكد لنا الآن أن الدول يجب أن تنفق الكثير على الأبحاث العلمية، بل والتجارب الطبية قبل غيرها، لأن مستقبل الإنسان محكوم بما يحيط به، خصوصًا أنه عدو ما يجهله ولا يرتاد طريقًا جديدًا إلا إذا كان شديد الثقة في إمكانية تحقيق أهدافه، فالإنسانية لا تملك ترف الإخفاق في جهودها المتواصلة المتعلقة بالدفع بالمخاطر بعيدًا عن مسارات البشرية في المستقبلين القريب والبعيد، ولابد لنا هنا من توفير أكبر قدر من الموضوعية والبعد عن شخصنة الأمور والانحيازات غير المبررة كأنما لا تكفي العالم المعاصر تلك الصراعات المحتدمة التي أصبح من المتوقع أن تنال من تماسكه وأن تضر بالعقل البشري في الصميم.
.. وداعًا أيها العام الذي انقضى، ومرحبًا بالقادم الجديد لعله يحمل معه ما يُحيي الآمال ويحفظ السلم والأمن الدوليين ويضع حدًا لنزيف الصراعات الدامية الذي نشاهده في كل مكان، بحيث تتحقق أثناءه نقلة نوعية كبرى في كافة المجالات، ذلك أن الخوف من المجهول هو أقسى المشاعر، كما أن الحياة القائمة على القلق الدائم والتحسب المستمر تؤدي في النهاية إلى البؤس المقيم والحزن الدائم.