«روايات» وهراوات..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

تكرر الكلام، في الآونة الأخيرة، عن «روايتنا». وهذا يعني أن التعبير الذي دخل القاموس السياسي في أواسط التسعينيات في سنوات أوسلو، ومع بروز أولوية «الصراع بين روايتين» نتيجة وقائع جديدة في السياسة، وعلى الأرض، قد استقر ويُعامل، الآن، ككلمة مفتاحية مفهومة ومتداولة على نطاق واسع.
 وكما في كل مكان آخر، فإن للعبارات الشائعة، والكلمات المفتاحية، والشعارات، جاذبية خاصة لأنها غالباً ما تكون ملتبسة، وتنطوي على دلالات مختلفة بقدر اختلاف القائلين بها، سواء تعلّق الأمر «بروايتنا» أو «رواية» غيرنا.
على أي حال، لم يكن التذكير بكل هذه الأشياء ضرورياً لولا أن تكرار الكلام عن «روايتنا» تكشّف عما يبدو نوعاً من سوء الفهم العميق لمعنى ومبنى الرواية المعنية، وأن في سوء الفهم هذا ما ينم عن إمكانية إفقارها، وتحويلها إلى مجرّد هراوة أيديولوجية في سجالات السياسة اليومية. ولعل في إقحامها على الموقف من أعمال فنية وثقافية ما ينطوي على الأمرين معاً.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن هذا لا يحدث عندنا، وليس حكراً علينا، ففي زمن المكارثية في أميركا، مثلاً، أصبحت «الأنشطة والأفكار غير الأميركية» تهمة قد تودي إلى الملاحقة الأمنية والسجن، رغم أن هوية وماهية مَنْ وما هو الأميركي أو غير الأميركي لا تقل التباساّ عمّا يقابلها في الجهة المضادة. وهذا يصدق على «العداء للاشتراكية والطبقة العاملة» في زمن الستالينية. ويصدق على تجليات لا تحصى في كل مكان آخر من العالم.
بيد أن هذا كله لن يكون مفهوماً، بالقدر الكافي، دون الكلام عن معنى ومبنى «الرواية» بشكل عام. وبه، وفيه، ما سيمكننا من التفكير في أمر «روايتنا» بطريقة أفضل. وأضعُ، هنا، «الرواية» و»روايتنا» بين مزدوجين للتذكير بما يشوبهما من التباس، وحقيقة أن الالتباس عضوي، وأن الاعتراف به وسيلة فعّالة لتفادي تحويل «الروايات» إلى هراوات، كما سيتضح معنا في سياق هذا التحليل.
بداية، لتوضيح معنى ومبنى «الرواية»، وعلى طريق تعريفها، فلننظر إلى «روايات» من نوع «القدر المتجلي» الأميركية، عن إنشاء الدولة الأميركية، وهويتها، وخصوصية نظامها السياسي. و»عبء الرجل الأبيض»، عن التوسّع والفتوحات الأوروبية منذ القرن السادس عشر، «والفتوحات العربية» في القرنين السابع والثامن عن خروج الإسلام من شبه الجزيرة العربية، وإنشاء أوّل إمبراطورية عربية. وهذه كلها «روايات» تاريخية من عيار كبير وثقيل، وقد تناسلت منها «روايات» فرعية كثيرة.
سنفكر، الآن، في هذه «الروايات» وفي الذهن عبارة المؤرخ والمفكر الفرنسي رينان، في أواخر القرن التاسع عشر، عن تواريخ الأمم التي تتكون لا مما يذكره الناس بصورة جمعية وحسب، ولكن مما نسوه، أيضاً، أي ما أسقطوه منها، وقرروا كتمانه، أو التحفّظ عليه، خجلاً وخوفاً منه أو عليه، لأن المصالح والنظرات والحاجات تتغيّر مع تغيّر الأزمنة.
ففي «القدر المتجلي» تقبع في الظل تواريخ الغزو وإبادة الهنود الحمر، والعبودية والعبيد. وفي «عبء الرجل الأبيض» تلطّخ العبء الحضاري المزعوم وضاعة وبشاعة اللص الأبيض، وفي الفتوحات العربية تفقد المرويات و»الروايات» التقليدية القديمة الكثير من المهابة والصدق، في الوقت الحاضر، خلافاً لما كانت عليه في قرون مضت.
وبهذا نتقدّم خطوة إضافية. لا توجد «رواية» دون عناصر من نوع «ماذا نحن، ومَنْ نحن، ولماذا نحنْ، وماذا نريد» ولا توجد إجابة واحدة، أو ثابتة، لأسئلة كهذه، ويحدث أن تكتسب توليفة معيّنة لإجابات محتملة مساحة أوسع من غيرها في الوعي الجمعي من وقت إلى آخر. ومع ذلك، لا يمكن، ولا يجب، فصل كل توليفة محتملة عن مصالح مادية، ومحاولات لتبريرها أو تمويهها، بمسوّغات ومرافعات أيديولوجية.
لذا، وما زلنا في معرض تفسير «الروايات» فلنفكّر في «الرواية» الإسرائيلية، مثلاً، وما يكتنفها من التباس. ففي القلب منها «العودة إلى أرض موعودة بعد الفي عام من العيش في المنفي». مفردات ودلالات العودة، والوعد، والمنفى، عناصر مركزية ومشتركة بين صهيونيات كثيرة. ومع ذلك، ثمة تأويلات مختلفة لعناصر التوليفة الأيديولوجية التي أصبحت سائدة.
فالصهيوني المتدين يعتقد أن الوعد الإلهي حقيقة، وأن المنفى كان نوعاً من العقاب الإلهي، بينما يعتقد العلماني، حسب عبارة للمؤرخ الإسرائيلي أمنون راز «أن الإله غير موجود، ولكنه وعدنا بهذه الأرض». هذه طريقة ساخرة، طبعاً، في الكلام عن النفاق الأيديولوجي.
 والمهم، وإذا شئنا الكلام عن صدام «على الأرض» بين تأويلات مختلفة: في ليلة إعلان «قيام الدولة» في أيار 1948 نشأ صراع عضوين في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، المجتمعة بقيادة بن غوريون في متحف تل أبيب، حول وجود إشارة لإله إسرائيل في البيان الرسمي. وقد هدد عضو عمالي (اسمه زيسلنغ) بالانسحاب، وعدم التوقيع على البيان في حال وجود إشارة كهذه، بينما هدد عضو متدين في اللجنة بالانسحاب، وعدم التوقيع على البيان نفسه، إذا خلت منه إشارة كهذه.
وعلى الرغم من أهمية الاستعانة «بالرواية» الإسرائيلية في التمثيل لالتباس «الروايات»، لأنها تعنينا أكثر من غيرها، إلا أنها ليست فريدة، ففي كل مكان من العالم، وفي الصراع على تأويل مفردات ودلالات تمثل عناصر مشتركة لتوليف «رواية» سائدة في هذه المرحلة الزمنية أو تلك، يمكن العثور على تأويلات مختلفة، وتضارب في الرؤى. وهذا يصدق علينا، وعلى «روايتنا»، في معالجة لاحقة. فاصل ونواصل.