من الذي قتل أطفال عقربا

زياد ابو زياد.PNG
حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

كنت أود الكتابة في موضوع من الشأن العام في هذه الظروف الاستثنائية الملحة، ولكنني ‏إزاء الحادث المأساوي لأطفال عقربا وجدت نفسي أمام حالة لا يمكن تجاوزها. ‏

كثيرون بكوا وبصدق وانفعال لما حدث، وكثيرون اهتموا في تفاصيل الحادث وبحثوا عن ‏الفيديوهات التي وثقت لحظة وقوعه للبت في الأمر وتحميل المسؤولية لمن تسبب بالحادث. ‏وأجمع الكثيرون على أن السيارة التي حملت الأطفال لم تتوقف عند خط الاجتياز والقت ‏بنفسها أمام الشاحنة التي لم يكن لديها وقت للتوقف فعصفت بسيارة الركاب ومن فيها. ‏

وكل هذا هو أمر طبيعي وتلقائي تمليه الطبيعة البشرية التي تتغذى على حب الاستطلاع ‏وعلى تنصيب نفسها حكما يوجه أصابع الاتهام أو النصح للغير.‏

مأساة مقتل ثمانية أطفال تتراوح أعمارهم بين 14-17 تكفي لتُدخل الحزن الى كل بيت فيه ‏حس انساني ولا أقول الى كل بيت فلسطيني فقط. وإعلان الحداد على أرواح هؤلاء الأطفال ‏وضمهم الى قائمة المستفيدين من مخصصات وزارة الشؤون الاجتماعية ليس سوى رد فعل ‏عاطفي عاجز إن لم يكن مقرونا ً بالبحث عن جذر المصيبة والتعامل معه لكيلا تتكرر أمثالها.‏

لنتفق أولا على أن سيارة خصوصية تحمل ترخيص للتحرك بأربعة ركاب لا يجوز لها بأي ‏حال من الأحوال أن تحمل عددا ً أكبر من المسموح به، حتى لو كانوا جميعا أبناء سائقها، ‏فكيف الحال إذا لم يكونوا أبناءه ولم يكن ينقلهم بقصد أخذهم للنزهة وإنما للنقل العمومي ‏مدفوع الأجرة. فالسائق هنا خالف بنقل عدد أكبر من المسموح به وخالف باستخدام سيارته ‏لنقل الركاب بالأجرة. أضف الى ذلك أنه لم يتوقف عن خط التوقف قبل الاندماج في الحركة ‏على الشارع الرئيسي الذي دخل اليه وهو شارع 90 في الحالة التي نحن بصددها. كما أن ‏الشاحنة التي صدمته كما يبدو لم تتقيد بالسرعة المسموح بها وتجاوزتها مما قلل نظريا من ‏قدرة سائقها على المناورة وتفادي الحادث الذي يمكن القول بأنه كان من الصعب تفاديه.‏

كل ما سبق هو كلام متداول بين الجميع وهو لا يعدو كونه محاولة للبحث عن المسؤول ‏المباشر عن وقوع الحادث الدموي دون التعمق والبحث عن خلفياته لتفادي تكراره.‏

بداية لا بد من التنويه بان الحادث وقع في المنطقة المصنفة “ج” وهي المنطقة التي تتحمل ‏فيها إسرائيل المسؤولية الأمنية والمدنية ولا يُسمح للشرطة الفلسطينية التواجد أو العمل ‏فيها لتطبيق قوانين السير على الطرق، كما لا يسمح للحكومة الفلسطينية بوضع الإشارات ‏الضوئية أو التدخل في نظام السلامة على الطرق في تلك المنطقة التي هي من المسؤولية ‏المطلقة لقوات الاحتلال‎ ‎وبالتالي فهي تتحمل كامل المسؤولية عما حدث في تلك المنطقة.‏

ويبقى السؤال: وهل السلطة الفلسطينية في مثل هذا الحال لا تتحمل أية مسؤولية؟ والجواب ‏هو أنها تتحمل جزءا ً كبيرا من المسؤولية لسببين، الأول هو أن السيارة التي كانت تنقل ‏الأطفال انطلقت من قرية عقربا وهي مصنفة “ب “وتطبيق أنظمة السير هو من مسؤولية ‏السلطة الفلسطينية. ولو كان هناك اهتمام بسلامة المواطنين لما سُمح لمثل هذه السيارة ‏بمخالفة قوانين السير بنقل ركاب بالأجرة وبنقل عدد من الركاب فوق المسموح به. والسبب ‏الثاني هو أن هذه السلطة هي إفراز عملية سياسية تفاوضية عقيمة لم تنجح في الوصول ‏الى مرفأها الأخير وتكلست عند وضع تداخل للصلاحيات والسلطات بينها وبين الاحتلال على ‏حساب سلامة وراحة المواطن ولو لم يكن هناك تصنيف أ ب ج وكان هناك رب واحد للبيت ‏لما كانت هذه الحوادث التي ستؤدي الى ضياع حقوق مثل هؤلاء الضحايا نتيجة التداخل ‏وسهولة التهرب من المسؤولية. ‏

هل هذه حالة نادرة شاء سوء الحظ أن يذهب ضحيتها هؤلاء الأطفال أم أن هناك حالات كثيرة ‏مماثلة شاءت الإرادة الربانية، حتى الآن، بعدم وقوعها ولا توجد أية ضمانة بأن لا تقع ‏وربما في المستقبل القريب إن لم يتم تلافيها مسبقا.‏

والجواب هو أن هناك حالات كثيرة مماثلة لذلك، لأن هناك في منطقة الأغوار كما هو الحال ‏في مناطق أخرى العديد من المستوطنات التي تعتمد على عمالة الأطفال الفلسطينيين وخاصة ‏في الأعمال الزراعية. وهناك في هذه المنطقة العديد من القرى الفلسطينية وخاصة المسماة ‏‏”شفاغورية” ومن بينها قرى تياسير ودوما وعقربا وفروش بيت دجن وعين البيضا وقرى ‏الأغوار مثل فصايل وغيرها يعمل أطفالها في الأعمال الزراعية بالمستوطنات من خلال ‏مقاولين يأخذون على “الرأس”، أي أن المقاول يتفق مع المستوطنة على إحضار عدد من ‏العمال “الأطفال” بمبلغ معين عن كل طفل ويأتي هو بذلك العدد المعين من الأطفال بعد أن ‏يتفق معهم على أجر معين يدفعه هو لكل واحد منهم يقل كثيرا ً عن المبلغ الذي سيتقاضاه ‏عن كل رأس، ليذهب الفارق الى جيبه، ويقوم هو يوميا ً بإحضار هؤلاء العمال وإعادتهم وقد ‏يظل هو يعمل معهم في المستوطنة لحين انتهاء عملهم. وكل هذا خلافا للقانون الذي يمنع ‏تشغيل الأطفال وللقانون الذي يحدد ساعات العمل وظروفه بشكل عام.‏

هذا ما يجري لأطفال هذه القرى ولأطفال العديد من القرى الفلسطينية القريبة من ‏المستوطنات وخاصة الزراعية والصناعية منها ومعظمهم من تلاميذ المدارس وأي مبلغ ‏مهما صغر هو بالنسبة لهم ولعائلاتهم المعوزة ثروة. فأين وزاراتنا من كل ما يحدث. أين ‏وزارة التنمية الاجتماعية وأين وزارة العمل وأين وزارة التربية والتعليم وأين وزارة ‏الزراعة وأين الشرطة بل وبالمختصر المفيد أين الحكومة وأين منظمات المجتمع المدني ‏التي تدعي الدفاع عن حقوق الأطفال وأين.. وأين.. وأين…!‏

أسئلة يجب أن نملك الجرأة على طرحها وأن نوجه أصابع الاتهام للمقصرين في أداء ‏واجباتهم وأن نقول بصوت عال بأن تغييب سلطة الشعب المتمثلة في تغييب المجلس ‏التشريعي وبالتالي تغييب المراقبة والمساءلة للأداء الحكومي هي رأس الأفعى الذي لا يمكن ‏اجتثاثه إلا بالعودة الى الحياة البرلمانية من خلال الشرعية الانتخابية والى إعادة النظر في ‏مجل الوضع العام وانهاء حالة التداخل في الصلاحيات بين الاحتلال وسلطة تخضع لصلف ‏وعنجهية الاحتلال، وعلى أساس إنهاء الاحتلال وإنهاء حالة سلطة اللا-سلطة والعمل ‏كوكلاء للاحتلال والاستيطان، ولا مكان تغليب لقمة العيش على التطلعات الوطنية والكرامة ‏الإنسانية من خلال ما يسمى بتحسين الظروف الاقتصادية في ظل الاحتلال. ‏

وليكن نداؤنا وشعارنا هو أن لا مكان لاستمرار الوضع القائم.‏