كنت أود الكتابة في موضوع من الشأن العام في هذه الظروف الاستثنائية الملحة، ولكنني إزاء الحادث المأساوي لأطفال عقربا وجدت نفسي أمام حالة لا يمكن تجاوزها.
كثيرون بكوا وبصدق وانفعال لما حدث، وكثيرون اهتموا في تفاصيل الحادث وبحثوا عن الفيديوهات التي وثقت لحظة وقوعه للبت في الأمر وتحميل المسؤولية لمن تسبب بالحادث. وأجمع الكثيرون على أن السيارة التي حملت الأطفال لم تتوقف عند خط الاجتياز والقت بنفسها أمام الشاحنة التي لم يكن لديها وقت للتوقف فعصفت بسيارة الركاب ومن فيها.
وكل هذا هو أمر طبيعي وتلقائي تمليه الطبيعة البشرية التي تتغذى على حب الاستطلاع وعلى تنصيب نفسها حكما يوجه أصابع الاتهام أو النصح للغير.
مأساة مقتل ثمانية أطفال تتراوح أعمارهم بين 14-17 تكفي لتُدخل الحزن الى كل بيت فيه حس انساني ولا أقول الى كل بيت فلسطيني فقط. وإعلان الحداد على أرواح هؤلاء الأطفال وضمهم الى قائمة المستفيدين من مخصصات وزارة الشؤون الاجتماعية ليس سوى رد فعل عاطفي عاجز إن لم يكن مقرونا ً بالبحث عن جذر المصيبة والتعامل معه لكيلا تتكرر أمثالها.
لنتفق أولا على أن سيارة خصوصية تحمل ترخيص للتحرك بأربعة ركاب لا يجوز لها بأي حال من الأحوال أن تحمل عددا ً أكبر من المسموح به، حتى لو كانوا جميعا أبناء سائقها، فكيف الحال إذا لم يكونوا أبناءه ولم يكن ينقلهم بقصد أخذهم للنزهة وإنما للنقل العمومي مدفوع الأجرة. فالسائق هنا خالف بنقل عدد أكبر من المسموح به وخالف باستخدام سيارته لنقل الركاب بالأجرة. أضف الى ذلك أنه لم يتوقف عن خط التوقف قبل الاندماج في الحركة على الشارع الرئيسي الذي دخل اليه وهو شارع 90 في الحالة التي نحن بصددها. كما أن الشاحنة التي صدمته كما يبدو لم تتقيد بالسرعة المسموح بها وتجاوزتها مما قلل نظريا من قدرة سائقها على المناورة وتفادي الحادث الذي يمكن القول بأنه كان من الصعب تفاديه.
كل ما سبق هو كلام متداول بين الجميع وهو لا يعدو كونه محاولة للبحث عن المسؤول المباشر عن وقوع الحادث الدموي دون التعمق والبحث عن خلفياته لتفادي تكراره.
بداية لا بد من التنويه بان الحادث وقع في المنطقة المصنفة “ج” وهي المنطقة التي تتحمل فيها إسرائيل المسؤولية الأمنية والمدنية ولا يُسمح للشرطة الفلسطينية التواجد أو العمل فيها لتطبيق قوانين السير على الطرق، كما لا يسمح للحكومة الفلسطينية بوضع الإشارات الضوئية أو التدخل في نظام السلامة على الطرق في تلك المنطقة التي هي من المسؤولية المطلقة لقوات الاحتلال وبالتالي فهي تتحمل كامل المسؤولية عما حدث في تلك المنطقة.
ويبقى السؤال: وهل السلطة الفلسطينية في مثل هذا الحال لا تتحمل أية مسؤولية؟ والجواب هو أنها تتحمل جزءا ً كبيرا من المسؤولية لسببين، الأول هو أن السيارة التي كانت تنقل الأطفال انطلقت من قرية عقربا وهي مصنفة “ب “وتطبيق أنظمة السير هو من مسؤولية السلطة الفلسطينية. ولو كان هناك اهتمام بسلامة المواطنين لما سُمح لمثل هذه السيارة بمخالفة قوانين السير بنقل ركاب بالأجرة وبنقل عدد من الركاب فوق المسموح به. والسبب الثاني هو أن هذه السلطة هي إفراز عملية سياسية تفاوضية عقيمة لم تنجح في الوصول الى مرفأها الأخير وتكلست عند وضع تداخل للصلاحيات والسلطات بينها وبين الاحتلال على حساب سلامة وراحة المواطن ولو لم يكن هناك تصنيف أ ب ج وكان هناك رب واحد للبيت لما كانت هذه الحوادث التي ستؤدي الى ضياع حقوق مثل هؤلاء الضحايا نتيجة التداخل وسهولة التهرب من المسؤولية.
هل هذه حالة نادرة شاء سوء الحظ أن يذهب ضحيتها هؤلاء الأطفال أم أن هناك حالات كثيرة مماثلة شاءت الإرادة الربانية، حتى الآن، بعدم وقوعها ولا توجد أية ضمانة بأن لا تقع وربما في المستقبل القريب إن لم يتم تلافيها مسبقا.
والجواب هو أن هناك حالات كثيرة مماثلة لذلك، لأن هناك في منطقة الأغوار كما هو الحال في مناطق أخرى العديد من المستوطنات التي تعتمد على عمالة الأطفال الفلسطينيين وخاصة في الأعمال الزراعية. وهناك في هذه المنطقة العديد من القرى الفلسطينية وخاصة المسماة ”شفاغورية” ومن بينها قرى تياسير ودوما وعقربا وفروش بيت دجن وعين البيضا وقرى الأغوار مثل فصايل وغيرها يعمل أطفالها في الأعمال الزراعية بالمستوطنات من خلال مقاولين يأخذون على “الرأس”، أي أن المقاول يتفق مع المستوطنة على إحضار عدد من العمال “الأطفال” بمبلغ معين عن كل طفل ويأتي هو بذلك العدد المعين من الأطفال بعد أن يتفق معهم على أجر معين يدفعه هو لكل واحد منهم يقل كثيرا ً عن المبلغ الذي سيتقاضاه عن كل رأس، ليذهب الفارق الى جيبه، ويقوم هو يوميا ً بإحضار هؤلاء العمال وإعادتهم وقد يظل هو يعمل معهم في المستوطنة لحين انتهاء عملهم. وكل هذا خلافا للقانون الذي يمنع تشغيل الأطفال وللقانون الذي يحدد ساعات العمل وظروفه بشكل عام.
هذا ما يجري لأطفال هذه القرى ولأطفال العديد من القرى الفلسطينية القريبة من المستوطنات وخاصة الزراعية والصناعية منها ومعظمهم من تلاميذ المدارس وأي مبلغ مهما صغر هو بالنسبة لهم ولعائلاتهم المعوزة ثروة. فأين وزاراتنا من كل ما يحدث. أين وزارة التنمية الاجتماعية وأين وزارة العمل وأين وزارة التربية والتعليم وأين وزارة الزراعة وأين الشرطة بل وبالمختصر المفيد أين الحكومة وأين منظمات المجتمع المدني التي تدعي الدفاع عن حقوق الأطفال وأين.. وأين.. وأين…!
أسئلة يجب أن نملك الجرأة على طرحها وأن نوجه أصابع الاتهام للمقصرين في أداء واجباتهم وأن نقول بصوت عال بأن تغييب سلطة الشعب المتمثلة في تغييب المجلس التشريعي وبالتالي تغييب المراقبة والمساءلة للأداء الحكومي هي رأس الأفعى الذي لا يمكن اجتثاثه إلا بالعودة الى الحياة البرلمانية من خلال الشرعية الانتخابية والى إعادة النظر في مجل الوضع العام وانهاء حالة التداخل في الصلاحيات بين الاحتلال وسلطة تخضع لصلف وعنجهية الاحتلال، وعلى أساس إنهاء الاحتلال وإنهاء حالة سلطة اللا-سلطة والعمل كوكلاء للاحتلال والاستيطان، ولا مكان تغليب لقمة العيش على التطلعات الوطنية والكرامة الإنسانية من خلال ما يسمى بتحسين الظروف الاقتصادية في ظل الاحتلال.
وليكن نداؤنا وشعارنا هو أن لا مكان لاستمرار الوضع القائم.