تهيمن العقلية الأبوية على ثقافة مجتمعاتنا العربية بصورة عامة، حيث يعتقد الأب أنه وحتى يمارس أبوّته بشكل صحيح عليه أن يُحسن تربية أبنائه، وبالتالي يبدأ بالتحكم في تفاصيل حياتهم (ومعهم الزوجة بالطبع)، يحدد لهم متى يستيقظون صباحا، ومتى يعودون للبيت مساء، وإلى أي ساعة يسهرون، وماذا يأكلون، بل وبأي طريقة يأكلون، وماذا يرتدون، وكيف يجب أن تكون هيئاتهم، وماذا يدرسون، وفي أي تخصص، وفي أي مجال سيشتغلون، وما هي مواصفات شريك العمر الذي سيقبلون به لأبنائهم أو لبناتهم..إلخ. بالطبع تتفاوت هذه الحالة من أسرة إلى أخرى، ولا يتمكّن جميع الآباء من فرض آرائهم على أسرهم كما يشتهون.. حيث يمتلك الجيل الجديد (ولحسن الحظ) قدرة أكبر على معارضة السلطة الأبوية.
ولكن بشكل عام سيستخدم الأبُ كل ما يستطيع من سلطات، وأحياناً بشكل جائر، حيث تتيح له ثقافة المجتمع التصرف بأسرته كما يراه مناسباً، بما في ذلك تزويج بناته الصغيرات (إما غصبا عنهن، أو بالإحراج والتوجيه)، وأحيانا يتعسف بسلطاته إلى درجة التوبيخ والضرب والعنف الجسدي، بل وحتى القتل.
وبالطبع، لا اعتراض على أهمية التربية والتوجيه، وأنّ هذا واجب الأبوين.. المشكلة في الأسلوب، وفي عقلية التحكم والهيمنة، والاستبداد، ومصادرة حرية الأبناء، أو عدم الاستماع لآرائهم، وعدم تفهم الاختلافات بين الأجيال.. فهذا بدوره يؤدي إلى تغييب وقمع شخصيات الأبناء، ومنع تفردها واستقلاليتها، وجعلها تابعة وخانعة.. وما أن يكبر الذكور حتى يأخذوا محل الأب، بكل عقليته التسلطية، وهكذا يتم تمرير الثقافة الأبوية من جيل إلى آخر.
والمشكلة الأكبر في التعسف في ممارسة هذا الدور، والذي يصل في بعض الأحيان إلى درجات مرعبة ولا إنسانية، وتتجاوز وظيفة التربية والتقويم، وتصبح مجرد عنف واستبداد، ورغبة في التحكم والاستفراد في القرار.
هذه العقلية الأبوية لا تنحصر داخل الأسرة؛ بل هي جزء أساسي من الثقافة المجتمعية، وتظهر في ممارسات الأفراد في شتى المجالات.. وقد باتت مختزنة في العقل الباطن، وتخرج إلى حيز الواقع كلما سنحت لها الفرصة.. وهي مترسخة من رأس السلطة حتى أصغر موظف.
فالزعيم، أو رئيس الدولة يتعامل مع المواطنين كأنهم أبناؤه، ولا نقصد هنا جانب الحب والحنان الأبوي، بل جانب التملك والسيطرة، فهو الراعي وهم الرعية، هو الأب الكبير، وهم الأبناء، ولا تقتصر المشكلة هنا في كون الأبناء مطلوباً منهم الطاعة والامتثال والاحترام.. بل والأهم في تفرد الزعيم في قراراته، والتصرف في دولته وكأنها ملكية خاصة.. ولا أحد يستطيع الاعتراض.
وكلما تدرجنا في سلم السلطة من رأس الهرم نزولا حتى المواطن العادي، سنجد أن العقلية الأبوية موجودة بكل ما تتطلبه، وما تستطيع القيام به من تفرد وهيمنة واستبداد.
فرئيس الوزراء، والوزير، والوكيل، ورئيس مجلس الأمناء، ومدير عام المؤسسة، والرئيس التنفيذي للشركة، ومدير المصنع، وصاحب المزرعة، والسفير، ورئيس القسم، وقائد الجهاز الأمني، ومدير الشرطة، وضابط المخفر، ورئيس الشعبة، ومدير المدرسة، ورئيس الجامعة، وعميد الكلية، ومختار القرية، ورئيس البلدية، وشيخ القبيلة، وحتى عريف الصف.. كل واحد من هؤلاء يتصرف في المؤسسة التي يترأسها كأنها مزرعة والده، أو ملكية شخصية، يتصرف وفق أهوائه، ومزاجه، ورؤيته الخاصة، بعقلية الرجل الواحد، يتفرد بالقرار، ويرتجل السياسات، ويغيّر ويبدل في الهيكلية، وفي توزيع الأدوار، وتقسيم العمل، ولا يتردد في نسف كل ما كان قائما من قبل، ولا يحاول البحث عن الكفاءات، أو الاستفادة من الخبرات الموجودة، أو من تجارب من سبقوه.. سيعتقد أنه الأكثر ذكاءً، والأكثر إخلاصاً، وحرصاً.. وسيبرر لنفسه كل ما يفعل، حتى لو كانت أخطاء فادحة.. وسيبرر لنفسه سعيه لكسب المزيد من الامتيازات، واهتمامه بمصالحه الخاصة أولا، ولو على حساب العمل..
هنا لا أتحدث عن الفساد بمفهومه الشائع، بل عن عقلية الارتجال والتفرد، وهي من أسوأ أشكال الفساد، وهذا يشمل أصحاب النوايا الحسنة، ومن يقصدون التغيير للأفضل.. وهذه لا تقتصر على القيادات، والهيئات الإدارية العليا، بل ستجدها حتى في أدنى المستويات، فلو ترأس موظفٌ على موظفٍ آخر وحيد ستجده يمارس عليه نفس الممارسات، وبنفس الذهنية، الفرق هنا أن رئيس الدولة يتحكم في ملايين الناس، وفي مقدرات البلاد.. وذلك الموظف يتحكم في بضعة موظفين، أو حتى في موظف واحد.. وإذا لم يوجد من يتحكم بهم، سيتحكم في المراجعين من المواطنين.. أي كلٌ يمارس الاستبداد بحسب ما أتيحت له الفرصة.
المشكلة هنا مرة ثانية هي غياب العمل المؤسسي، وغياب التخطيط الإستراتيجي، بل وغياب خطة العمل قصيرة الأمد، وغياب النظم واللوائح الداخلية، أو عدم احترامها ولا الالتزام بها إن وُجدت.. واستبدالها بالعقلية الأبوية.. ولا أريكم إلا ما أرى!
هذه العقلية الأبوية تنتج سلطة طبقية استبدادية، بل هي أفضل وصفة لإدامة الاستبداد.. فالأب ينتج أولادا تابعين، ويمدد من خلالهم ثقافة الاستبداد لتوريثها للأجيال القادمة.. والمسؤول في العمل (مهما كان منصبه وموقعه) سينتج موظفين تابعين، وسيخلق بيئة عمل غير صحية يسودها غياب الحوار، وانعدام الثقة، وعقلية التشكيك والتآمر.. وهذه التبعية والنمطية تحرم المجتمع من سمة التجدد والابتكار، وتحرمه فرص التطور والتقدم، وتسلب الأفراد سمات التفرد والاختلاف، وإمكانية الاعتراض أو الاحتجاج، وتجعل المجتمع بأسره خاضعا، فكل طبقة اجتماعية ستخضع للطبقة التي تعلوها (وظيفيا واقتصاديا واجتماعيا)، والكل يخضع لرأس السلطة.. وهكذا يدوم الاستبداد والقهر.
لا حل لهذه المعضلة إلا بالتخلي عن «العقلية الأبوية»، عقلية التفرد والارتجال والتملك.. على المستوى العائلي استبدالها بثقافة الحوار والتفاهم والثقة وتبادل الاحترام وتفهُّم التغيرات، دون خوف، ولا فوقية، وفي أجواء يسودها الحب.. على المستوى العام استبدالها بعقلية ومنهج المؤسسة، وبالتخطيط، والتوثيق، والتعاون، والعمل بروح الفريق، والمشاركة في صناعة القرار، واحترام التخصصات، وتكامل الأدوار، والمشاركة السياسية على أوسع نطاق.. وهذا يتطلب حياة ديمقراطية حقيقية، ووجود برلمان، ومعارضة، وأحزاب سياسية، وتيارات ثقافية وفكرية متنوعة، ودورات انتخابية متجددة تجري بانتظام في كافة المؤسسات.. وقبل ذلك، والأهم تغيير عقلياتنا البدائية.