عاد مجدداً موضوع التحويلات الطبية، أو بالأدق الإنصاف والعدالة الصحية في الحصول على التحويلة، ومستوى الاعتماد على الذات في الرعاية الصحية، وبالأخص لمرضى الأمراض المزمنة وعلى رأسها مرض السرطان، ليثير الجدل والنقاش، سواء فيما يتعلق بعدم قبول دخول مرضى إلى بعض المستشفيات، لعدم وجود تحويلة طبية، أو لتراكم الالتزامات المالية للمستشفيات على وزارة الصحة، أو من خلال إثارة موضوع «مستشفى خالد الحسن» لأمراض السرطان، بالتحديد أموال التبرعات التي تم جمعها لبناء المستشفى، والذي كان يعول عليه كثيراً من أجل تحقيق الاعتماد على الذات في علاج والتعامل مع مرضى السرطان من قبل القطاع الصحي الفلسطيني.
بكل صراحة وموضوعية، ورغم التطور ومحاولة الضبط والمأسسة، إلا أن موضوع التحويلات الطبية إلى خارج القطاع الصحي الفلسطيني ما زال موضوعاً مقلقاً، ومربكاً، ومكلفاً، ويحتاج إلى العناية والدراسة والمراجعة، وما زال المواطن العادي يشك أو لا يثق في الإجراءات وفي إمكانية حصوله على تحويلة إذا احتاجها، وما زال هناك اعتقاد أن ذلك حكر على جهات أو على أشخاص محددين متنفذين أو محسوبين على هذا أو ذاك، وبالتالي ما زالت هناك حاجة إلى الضبط، والتوفير في هذه الفاتورة الأكثر تكلفة وإرهاقاً لميزانية وزارة الصحة، وكذلك الحاجة إلى توخي العدل والإنصاف لمن يستحق، وإلى التوجه أكثر نحو الاعتماد على الذات، من خلال الاستثمار أكثر وبشكل مستدام في إمكانيات وكفاءات وخدمات، يمكن من خلالها، التقليل من التحويلات الخارجية المكلفة.
وبشكل عام، لا ينكر أحد أن هناك تطوراً متواصلاً يحدث في القطاع الصحي في بلادنا، سواء من قبل القطاع العام أي وزارة الصحة، أو من قبل استثمارات ومشاريع القطاع الخاص، وأن هناك زخماً جماعياً وتكاتفاً ودعوات من جهات مختلفة من أجل الارتقاء بهذا القطاع، سواء فيما يتعلق بإجراء العمليات أو إحضار الأجهزة أو استخدام الخبرات، أو فيما يتعلق بافتتاح مراكز صحية متخصصة، والهدف هو توفير الخدمة ذات الجودة المطلوبة للمواطن، وأن يحصل عليها بشكل رخيص وسهل، وبالتالي التوفير عليه وعلى الحكومة من خلال التحويلات، سواء فيما يتعلق بالمال أو الوقت أو الجهد.
ورغم التقدير لكل الجهود التي عملت من أجل تقدم وتحسين وتطوير خدمات وأجهزة ومعاملة القطاع الصحي في بلادنا، إلا أن هناك الكثير الذي ما زلنا نحتاجه، والذي في ظل الإمكانيات المحدودة، والظروف المعقدة، يمكن القيام به، من خلال سياسات ومن خلال تغيير ثقافة عمل، أو من خلال تعديل في فلسفة الإدارة، والاتجاه أكثر نحو سياسات واضحة تعتمد على الشفافية والنزاهة، وإعادة تسخير المصادر حسب احتياجات المواطن الفلسطيني.
وموضوع التحويلات الطبية، أو بالأدق توخي الإنصاف والنزاهة والعدالة الصحية في هذا الصدد، هو ليس الموضوع الجديد، حيث أثار وما زال يثير اللبس والألم في بعض الأحيان، وقبل فتره كان هناك موضوع الجدال بين مستشفى المطّلع في مدينة القدس وبين وزارة الصحة حول المستحقات المالية أو فواتير المستشفى المتعلقة بالتحويلات الطبية التي في غالبها للعلاج بالأشعة لمرضى السرطان أو للحصول على أدوية السرطان أو عدم توفرها، أثار ذلك اهتماماً متزايداً حول مدى انتشار وتصاعد عدد ومستوى ونوعية مرض السرطان في بلادنا، والذي يشير بوضوح إلى تعمق هذا المرض بأنواعه في مجتمع لم يكن يعرف ذلك قبل عشر سنوات أو أكثر، وما ينتج عن ذلك من تبعات مالية واجتماعية وثقافية وصحية وما إلى ذلك، وبالتالي الحاجة إلى التوجه نحو توفير الإمكانيات للاعتماد على الذات في هذا المجال.
وفي تقرير حديث حول موضوع التحويلات الطبية من وزارة الصحة الفلسطينية، كان واضحاً أن مرض السرطان يستحوذ على حوالى 50% من مجمل التحويلات الطبية في بلادنا، وأن هذا المرض يودي بحياة حوالى 15% من مجمل الوفيات السنوية في الضفة وغزة، وأن هناك ازدياداً مطرداً خلال السنوات الماضية، سواء فيما يتعلق بأعداد الإصابات بمرض السرطان أو بحالات الوفاة من المرض، وهذه المعطيات المقلقة، تتطلب ليس فقط العمل الجاد من أجل توفير العلاج من أدوية ومن عمليات جراحية وعلاج بالأشعة وما يتبعهما، ولكن البحث الجدي عن الأسباب الحقيقية الموضوعية لتصاعد انتشاره بهذه الصورة السوداء.
ومن الأسئلة البديهية التي يسألها الناس، حين قراءة أو سماع المعطيات عن موضوع التحويلات الطبية، أو عن انتشار أمراض السرطان عندنا، وحديثاً عن أموال تبرعات مستشفى خالد الحسن للسرطان: ما هي الأسباب؟ ولماذا الآن وخلال الفترة القليلة الماضية؟ لماذا لم يكن ذلك قبل عشر أو عشرين عاماً؟ هل هناك عوامل بيئية أو مسببات تتعلق بالغذاء أو بطبيعة الحياة والعمل؟ وفي أي مناطق ينتشر السرطان؟ وما أنواعه؟ ومن هي فئات الناس الأكثر إصابة به، أو الأكثر عرضة للإصابة؟ وإلى غير ذلك من الأسئلة، التي من المفترض أن تتم الإجابة عنها من خلال أبحاث علمية موضوعية تنبع من الواقع عندنا، وبالتالي وضع المقومات أو العوامل لمنع الإصابة بأمراض السرطان من الأساس، أو للحد منها أو للتعامل معها، وذلك بالتوازي مع توفير الرعاية والعلاج والأدوية لأمراض السرطان المنتشرة الحالية.
ومع عودة الحديث عن دوامة موضوع التحويلات الطبية، بالأخص عدم الإنصاف في الحصول عليها، ومع بدء الجدل حول مصير تبرعات مستشفى خالد الحسن للسرطان، وبالتالي إمكانية فشل المشروع، وما لذلك من إحباط وتكلفة وتخبط، فإن القطاع الصحي في بلادنا يحتاج إلى التركيز على التخطيط لإستراتيجيات بعيدة المدى، تعتمد مبدأ الوقاية والتوعية كأولوية للحفاظ على الصحة العامة، وتركز على التطور النوعي وليس الكمي وبشكل مستدام في الرعاية الصحية الأساسية، أي الرعاية الأولية من عيادات ومختبرات وفحوصات وتأمين صحي وتطعيم وتثقيف والاعتماد على الذات.
ويحتاج كذلك إلى إرساء فلسفة وأسس نظام المتابعة والتقييم والمساءلة والتعلم بشكل ممنهج وموضوعي، وتطبيق سياسات واضحة تقوم على مبدأي النزاهة والشفافية في قضية التحويلات الطبية وتعيد الثقة إلى المواطن وفي الاتجاه الصحيح، لكي تتراكم الأمور الإيجابية التي نراها ونوثقها، ولكي يصبح القطاع الصحي من القطاعات التي نفتخر ونثق بها، سواء من حيث خدمة المواطن أو توفر الكفاءات المتخصصة، أو استعمال الأجهزة والمعدات الحديثة، أو وجود أنظمة إدارية توفر على المواطن الوقت والجهد والمال لكي يحصل على الخدمة، أو وجود أنظمة للمتابعة والتقييم تقيس الإنجازات المحددة خلال فترة زمنية، بالاعتماد على معايير وأهداف موضوعة أصلاً، والأهم من خلال تطبيق مفهوم العدالة الصحية في الحصول على التحويلة الطبية وفي العلاج والرعاية والاهتمام، كما يتم في العديد من دول العالم.
الحرب على غزّة بين دوري الداخل والخارج
19 اغسطس 2024