القبلية الفلسطينية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

العشائرية تنظيم إرثي، بمعنى أن الفرد يكون ابن العشيرة، فقط لأنه وُلد فيها، فيكتسب امتيازاتها (المكانة الاجتماعية، الحماية، الواسطة..) ويتحمل وزر أخطاء أي فرد منها (دفع الدية، الإجلاء، حرق بيته..). ولأنها رابطة تقوم على الدم، ستكتسب الكيانات العشائرية قدرة على البقاء أكثر من الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية، التي تتأثر بالعوامل الخارجية والداخلية، فتضعف أو تنتهي.
تخلصت الدول الحديثة من العشائرية منذ زمن بعيد، لكن المنطقة العربية احتفظت بها، لأسباب سوسيولوجية واقتصادية، ولأنها شكلت ركيزة لتثبيت النظم الحاكمة. ومع ذلك، العشائرية بحد ذاتها ليست المشكلة؛ فالعشائر موجودة من أقدم الأزمنة، وستظل موجودة.. وهي بصورتها الإيجابية رابطة اجتماعية مهمة، تعني صلة الأرحام، والتعاون، والتعاضد، والحفاظ على قيم المجتمع.. ولا أحد يطالب بتفكيك العشيرة طالما أنها في إطار الدولة، وتحت مظلة القانون العام، ولا تشكل تهديداً للوحدة الوطنية، أو بديلاً عن الهوية الجامعة.
تاريخياً، ارتبطت العشائرية في فلسطين بالأرياف والقرى، بسبب أنماطها الإنتاجية وأدواتها الفلاحية، ومُلكية الأراضي، بعض المدن الفلسطينية شكلت حواضر مدينية مزدهرة مثل حيفا ويافا والقدس، رغم أنها كانت تحت حكم العشائر، إلا أن مستقبلها كان واعداً باتجاه أكثر مدينية وحداثة، بيد أن النكبة فكّكت بنية تلك المدن وهجّرت سكانها.
أمّا مدن الضفة والقطاع فكانت مدناً صغيرة (بثقافة أشبه بالقروية) تسيطر عليها العائلات الإقطاعية وطبقة التجار، ومع أنها تضخمت عمرانياً وزاد عدد سكانها إلا أن ذلك لم توازيه عمليات تطور في الحالة المدينية والثقافية، فتطور الصناعة (التقليدية) انحصر في السوق المحلية ولم يتبلور عنه فرز طبقي (كما حدث في المدن الصناعية)، بل أوجد تداخلاً اجتماعياً ينتمي لمرحلة ما قبل الرأسمالية، تسيطر عليه عائلات ثرية (لعبت دور الكومبرادور)، وظلت الطبقات الفقيرة ضعيفة ومفككة (بروليتاريا رثة)، ولم تتبلور طبقة وسطى حقيقية، لذلك لم يرافق هذا النمو العمراني مظاهر التمدن والحداثة (أدب، سينما، مسرح، صحافة، أحزاب، نقابات، اتحادات، مراكز أبحاث، مؤسسات مجتمع مدني..) مثل هذه المظاهر كانت موجودة، لكنها كانت تنمو ببطء، وبأشكال محدودة، ويطغى عليها الطابع الشكلاني، والثقافة المحافظة والحذرة من التغيير، وظلت البنى العشائرية متغلغلة.
كانت العشائرية من بين أبرز أسباب فشل ثورة الـ 36، وهزيمة الحركة الوطنية، وتناحرها، والتي أدت لاحقاً إلى ضياع فلسطين.. وأثناء فترة الحكم الأردني للضفة تم تعزيز قوة العائلات الكبيرة، ومنح أبنائها مواقع وظيفية متقدمة.
وبعد 1967 تحالف الاحتلال الإسرائيلي مع بعض المخاتير، ومنحهم بعض الامتيازات، وجعل منهم وسطاء بين سلطة الاحتلال والمجتمع الفلسطيني، وحاول من خلالهم تنفيذ مشروع روابط القرى، كبديل سياسي عن منظمة التحرير. إلى أن جاءت الانتفاضة الأولى وأفشلت هذا المشروع، وخنقت صوت العشائر والعائلات (مؤقتاً)، ووجهت ضربة موجعة لثقافة العشيرة، التي أُجبرت على الدخول في طور الكمون. ولكن للأسف جاءت السلطة الوطنية لتحييها من جديد، باستخدام نفس قواعد اللعبة.
وفي الوقت الراهن أبدت العشائر براغماتية لافتة للنظر، واستفادت من مظاهر الحداثة والتكنولوجيا، وطورت بنيتها التنظيمية، وأصبح ديوان العشيرة صرحاً ضخماً، يشمل قاعة للاجتماعات، ومكاتب مزودة بالإنترنت، وهناك مجلس للعشيرة، وسكرتارية، وأمين للصندوق، وصفحة على فيسبوك، ومجموعات اتصال على «الواتس آب»، وأصبحت العشيرة مظلة لرؤوس الأموال والنخب الأكاديمية. كما تطور شكل مختار العشيرة وصار يرتدي بدلة وربطة عنق، وصارت العشائر تباهي بالشخصيات الاعتبارية وبمن يحملون شهادات عليا، وهؤلاء صاروا يدركون أن المحاصصة العشائرية تستطيع أن تفتح لهم أبواب الحياة: الجامعات، الوظيفة، رئاسة البلدية، مناصب عليا، البرلمان، الوزارة.. وصارت العشائر قوة اجتماعية قادرة على التحالف والتموضع مع كيانات سياسية كالأحزاب والجمعيات والمؤسسات والجامعات، ومع مؤسسات الدولة.
وبهذا المعنى أصابت العشائرية الحداثة شكلياً، لكنها بقيت في المضمون في مرحلة ما قبل الحداثة، وهي مرحلة متخلفة بمفهوم التطور الاجتماعي. فالعشائرية هي حاضنة التعصب القبلي، وبيئة التطرف الديني، ولأنها تعتبر العنف رجولة، ستعلي من قيم الثأر والانتقام والقتل، وعصاب العقلية الذكورية التي تزدري المرأة وتنظر إليها نظرة دونية، وتمجّد قتل النساء على خلفية ما يسمى شرف العائلة.. وفي أحسن الأحوال تلجأ العشيرة إلى الممارسات السلبية كالواسطة والمحسوبية. (مشهور بطران، مؤسسة الدراسات الفلسطينية).
قويت العشائرية بعد أن ضعفت السلطة، وضعفت الأحزاب السياسية، وترهلت الفصائل الوطنية، وتراجع اليسار، وخبا صوت المنظمات المدنية.. ولم تعد هناك قوة مؤثرة ومحركة للجماهير، فخلت الساحة للعشائر، ولمَن كانوا على أهبة الاستعداد من الأحزاب الدينية التي كانت أكثر تنظيماً وتأثيراً.
ومع تنامي الثقافة القبلية صارت العشائر تكتسب يومياً معركة جديدة وتفرض نتائجها على كل المجتمع؛ باتت تسيطر على القضاء (وتهدده)، وصار لديها قضاء مواز، وبديل.. ومن خلال سلطتها الرمزية سيطرت على التعليم، وخاصة عبر مجالس الآباء، ونفوذها على مديريات التربية والتعليم، وعلى المدارس، كما اخترقت الأحزاب السياسية، وتحالفت مع أحزاب الإسلام السياسي، وتبادلت معها الأدوار .. وهكذا تغولت على المجتمع لدرجة أن الكثير من العلمانيين واليساريين والأكاديميين سكتوا عنها، ووقفوا مع أحزابهم ومنظماتهم على الحياد السلبي، ولم يجرؤوا على إعلان موقفهم الحقيقي في القضايا الاجتماعية والسياسية.
استطاعت العشائر إسقاط قانون الضمان الاجتماعي، وما زالت تصر على إسقاط «قانون حماية الأسرة»، وتدعو إلى حل كافة المؤسسات النسوية.. لكن خطورة العشائرية لا تتوقف عند البعد الاجتماعي؛ أي بكبح التطور الاجتماعي، وإعاقة التقدم نحو التمدن.. خطورتها أنها تظل قوة خفية كامنة تهدد النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، وقد أظهرت ذلك في مرات عديدة، وبأشكال مخيفة. بل إنها أكبر تهديد للوحدة الوطنية، توازي بخطورتها ما فعلته الطائفية في لبنان وسورية والعراق.. فهي السياق الجاهز للاستخدام (من قبل الخارج) كثورة مضادة مستعدة لهدم الوطن.
 ونحن نعرف أن نبينا الكريم نهى عن التعصب القبلي، وقال: «دعوها فإنها منتنة».