تبدأ التغيرات الحاسمة او الانعطافات السياسية الحادة في العلاقة بين الدول كما بين الأزواج أولا من لغة الخطاب. ان الخطابة التشاجرية التي تنطوي على التقريع وعبارات التوبيخ والنقد اللاذع، انما هي الإيذان والمؤشر الأوضح على انتقال هذه العلاقة بين الطرفين الى محاولة احد هذين الطرفين فرض سيطرته على الطرف الثاني، والا اذا لم يكف بالخطاب أي قوة الكلمات، الانتقال الى ليّ الذراع بقوة الضغوط القاسية.
ان القوى العظمى في الواقع الراهن اليوم كما عبر التاريخ، كانت في كل مرة قررت ممارسة الضغط والإكراه ضد طرف آخر، تملك من الأدوات ما يفوق قدرة الدولة المستهدفة بهذه الضغوط على الاحتمال. ان مثال روسيا مع تركيا اليوم هو تجسيد لهذه الحقيقة، وان الأزمة الراهنة كذلك اليوم بين الإدارة الأميركية وإسرائيل هو تجسيد لهذه الحقيقة الواضحة بجلاء. هل هي أزمة وانعطافة حادة هذه الأزمة الأخيرة بين أميركا وإسرائيل؟ والجواب هي أزمة كبيرة وانعطافة.
لا تتصرف الدول العظمى او تخوض المعارك السياسية او الحربية تحت تأثير عواطفها، وانما تحت تأثير دافع واحد تحدده مصالحها او تهديد يعترض طموحاتها. وهنا عند هذه اللحظة من صراع القوى على الشرق الأوسط الذي يحدد التوازن العالمي، انما يجب ان نفهم الإطار الجديد والراهن والمتكرر للأزمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، او حتى في إطار الإبقاء على التحالف بينهما، وكان ذلك العام 1956 بعيد حرب السويس والعدوان الثلاثي على مصر بين ايزنهاور وبن غوريون. وتكرر العام 1991 غداة حرب بوش الأب على العراق بين بوش الاب ووزير خارجيته جيمس بيكر مع إسحاق شامير. حين كانت طموحات أميركا في الأزمة الأولى العام 1956 وراثة النفوذ الاستعماري القديم البريطاني والفرنسي، ولم تكن إسرائيل الوليدة في ذلك الوقت تمثل حليفا يعتد به في منظور المصالح والاستراتيجية الأميركية على حد سواء. اما في المرة الثانية وقد شارفت الحرب الباردة على الانتهاء مع انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، فلم تعد إسرائيل في هذا المنظور الكنز الاستراتيجي القديم، وبدت كما لو أنها تحولت الى عبء ثقيل، وهو العبء الذي يبلغ الشعور به لدى الدوائر الأميركية ذروته الراهنة الآن. فالتحالف مع القوم السني الأكثري العربي الإسلامي انما هو المدماك الرئيسي في مواجهة تحدي روسيا بوتين واندفاعته القوية في سورية، وليس إسرائيل التي تفسد بمواصلة احتلالها للفلسطينيين هذا التحالف الجديد.
هل وضحت مقاربتنا إذن لأسباب هذه الأزمة الثالثة في سياق تاريخي يتصل مباشرة بصياغة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وليس في إطار تاكتيكي او مجرد تعبير عن غضب عابر، اذا كان الرهان اليوم على التحالف او التجمع السني انما يمثل تحولا او انقلابا سياسيا في الشكل والمضمون، يعيد ترتيب توازنات القوى ليس في الشرق الأوسط فقط، وانما يتصل بتحديد مصير آسيا.
وانه لنجاح هذه الاستراتيجية الموجهة أساسا ضد الحلف الروسي الإيراني والتطرف السني السلفي الداعشي، انما يجب الآن اجتثاث تركة الاستعمار الأوروبي والغربي، التي ظلت منذ مائة عام تغذي عقيدة العداء للغرب، وهذه التركة الثقيلة ليست سوى المسألة الفلسطينية أي حل القضية الفلسطينية.
هل نفهم اذن الرابط الآن بين الحرب على الإرهاب وبين الجرح الفلسطيني ومواصلة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وعدم تطبيق حل الدولتين؟ وان التزامن في التوقيت بين الإعلان السعودي عن إنشاء التحالف السني الإسلامي الذي يضم 34 دولة، وانتقال الإدارة الأميركية الى الهجوم الخطابي العلني على حكومة نتنياهو، انما هو الخطوة الموازية لهذا الإعلان، ولادة هذا التحالف والتي تمثل الاتجاه الشامل لاستراتيجية أوباما، على الأقل في غضون السنة الأخيرة المتبقية أمامه بعد ان نجح بوتين في التسلل من وراء الاتفاق الذي راهن عليه مع إيران، بعقد تحالفه الإقليمي مع إيران والعراق الى جانب سورية وحزب الله.
وبداً واضحاً بعد الآن ان الخارطة الجغرافية القديمة للشرق الأوسط لم تعد صالحة بعد هذا التحول الجديد، وان المسألة المطروحة لإعادة تركيب النظام الأمني والسياسي الإقليمي، تستدعي في الجوهر الخلاف بين المقاربة البريطانية والفرنسية، الرهان على الأكثرية السنية ام الأقليات؟ الدولة المركزية السنية ام دويلات الطوائف والأقليات؟ ومن الواضح ان أميركا اختارت المقاربة الأولى فيما روسيا على خطى المقاربة الفرنسية.
والتحليل الواقعي يقول ان سلسلة متواصلة وممتدة على مدى مئة عام منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، من الإحباطات المنكورة نتيجة ممارسات الغرب، هي التي أدت بالنهاية الى ظهور داعش والإرهاب المتطرف.
وهذه الإحباطات تبدأ من الخديعة الكبرى لثورة الشريف حسين واختراع إسرائيل التوراتية مكان فلسطين وتقسيم بلاد الشام، مرورا بمحاربة القومية العربية وانتهاء بإفشال الدولة المركزية، وتفكيك هذه الدولة والمظلومية السنية التي نشأت عن ذلك في العراق وسورية، الى جانب المظلومية الكبرى في فلسطين.
من هنا اذن، نقطة البداية وهو التحول الذي كان بالضرورة يستدعي هذا التغير الموازي في لغة الخطاب، بالانتقال من دبلوماسية الهمس في الغرف المغلقة الى الضرب على الإزميل، وهذا يعني نهاية مرحلة وحقبة من النفاق والملق الدبلوماسي والسياسي قد اسدل الستارة عليها وانتهت.
وهيا اذن لقول الحقائق كما هي وفي العلن، اذا كان الاحتلال الذي يغذيه التطرف الديني الأيديولوجي اليميني في إسرائيل، هو الزائدة الدودية التي يجب استئصالها اليوم كشرط لإقامة النظام الإقليمي الأمني الجديد في المنطقة ومواجهة التمدد الروسي. وهذه هي اللحظة التي تمثل بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين اللحظة الاستراتيجية الحاسمة، ولذلك فان هذه الانتفاضة جاءت في وقتها أي بالقرب من هذه الانعطافة الكبيرة.