يحيل التحقيق الصحافي الذي يشغل عدّة فئات من الرأي العام في إسرائيل حاليًا، وكُشف فيه عن استخدام الشرطة برنامج التجسّس “بيغاسوس” التابع لشركة السايبر الهجوميّة NSO لاختراق هواتف المواطنين، يُحيل، من ضمن أمور أخرى، إلى ظاهرة تجذّر العمل البوليسي غير المُراقب، والذي يحظى بشرعية رسمية ومجتمعية. ومن غير العسير العثور حتى على تحليلاتٍ إسرائيليةٍ صرفة تؤكد أن الحصيلة الناجزة لمثل هذا العمل هي رسوخ عملية المسّ بحرياتٍ أساسيةٍ تخصّ الفرد، وتقويض مبادئ ديمقراطية للنظام وقواعد سيادية للدولة.
وعلى سبيل النمذجة، في عام 2012 نشرت أريئيلا شدمي، وهي ضابطة شرطة سابقة، كتابها “بلاد محروسة، بولسة وسياسة الأمن الشخصي”، اعتبر الأول من نوعه الذي يتناول بصورة نقدية عمل جهاز الشرطة في إسرائيل. ويبيّن، من خلال تحليلٍ ثاقبٍ، كيف تتسلّل الأجهزة الشرطية، بصورة تدريجية وعميقة، إلى نسيج الحياة الاجتماعية والسياسية في دولة الاحتلال، وذلك تحت مظلّة “متطلبات الأمن الداخلي” التي تسوّغ إخضاع الحياة العامة والخاصة لأنظمة الرقابة والتحكّم بشكلٍ آخذ بالاتساع.
ويستعرض التغييرات الحادّة في أشكال العمل البوليسي ومهمات أجهزة حفظ الأمن الداخلي، وما يرافق ذلك من استخدام صارم واستفزازي للصلاحيات والأجهزة، خصوصًا في كل ما يتعلق بسلوك نشطاء اليسار، والفقراء، ومهاجري العمل، ومن وضع المشكلات الاجتماعية في إطار التهديدات الإستراتيجية.
كما يبحث الكتاب في ظهور أجهزة جديدة لحفظ الأمن وتطوّرها، مثل شركات الحراسة الخاصة، والشرطة البلدية والجماهيرية، وذلك في نطاق عمليات خصخصة العمل البوليسي ومهمات حفظ الأمن. وتأتي المؤلفة على ما يجري من نقل لصلاحيات الأمن العام إلى مؤسسات وأطر تجارية تعمل ظاهريًا باسم القانون وأحيانًا خارج القانون، ما يُنتج حالة من اللامساواة على مستوى الأمن الشخصي والأمن العام، وخصوصا بالنسبة للمجموعات السكانية الضعيفة، وبالأساس النساء والعرب، ويحوّل الحيّز العام من حيّز يُفترض أن يكون مفتوحًا للجميع إلى مجموعة من الحيزات مفتوحة أمام مجموعات قوية وموصدة أمام مجموعات أخرى.
وليست الدولة وحدها المسؤولة عن هذه الحصيلة أو الصيرورة، بل أيضًا مجتمعها، كما تدلّ على ذلك حقيقة أن “اليوم العالمي للحفاظ على خصوصية الفرد” وحمايته من أشكال التنصت والمراقبة ومن الاعتداء على خصوصيته (يصادف يوم 28 يناير/ كانون الثاني من كل عام)، والذي أحيته منظمات حقوقية وحركات شعبية عديدة في العالم، مرّ بصمتٍ شبه مطبق في إسرائيل، باستثناء هذا التحقيق الذي أظهر محاولات المؤسسة الإسرائيلية الرامية إلى توسيع الصلاحيات المخوّلة لها في كل ما يرتبط بالتنصّت ورصد المواطن في حياته العامة.
حتى الآن، كان مثل هذا الموضوع يُبرّر بذرائع أمنية. وإلى حدّ كبير، تجنبّت أغلب المنظمات الحقوقية الإسرائيلية التطرّق إليه، كغيره من مواضيع لها ترابط تشابكي مع الأمن، على غرار عدم إثارة جمعيات الحفاظ على البيئة الإسرائيلية قضية المفاعلات النووية الإسرائيلية بخلاف مثل هذه الجمعيات في دول أخرى، ما يعكس طبيعة عسكرة المجتمع الإسرائيلي وأمننته، ويوضح ممارساتٍ شتّى تحوّلت إلى ما يشبه معطيات غير مُفكر فيها أو مسكوت عنها.
وكان المفكّر الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش (1903- 1994) أوّل من تنبّأ بأن تصبح إسرائيل، بما في ذلك في نطاق التفاعلات داخل “الجماعة اليهودية” نفسها، دولة أمنية أطلق عليها تسمية “دولة الشين بيت” (“الشين بيت” كان الاسم المختصر لجهاز الأمن الإسرائيلي العام الذي أصبح “شاباك”)، تحت وطأة احتلال الأراضي الفلسطينية في عام 1967. فقد كتب في 1968: “في غضون أعوام قليلة، لن يظلّ هناك عامل أو فلاح يهودي. وسوف نتحوّل إلى شعبٍ من المفتشين والموظفين وأفراد الشرطة والمباحث السرية.. وستغدو إسرائيل دولة شين بيت تصوغ المناخ العام برمته مع مؤشرات واضحة تتهدّد بالخطر حرياتنا الأساسية، حرية الكلام والتعبير والتنظيم. وسيُمسي الفساد أسطوريًا”!