أغلب الظن نعم.
في قراءات سابقة وحالية، أيضاً، كان ـ وما زال ـ يُنظر إلى توقعات كهذه بأنها مبالغة، أو ليست واقعية، وذلك بالنظر إلى الحالة السياسية المتردية، وإلى تسرب اليأس والإحباط إلى فئات وقطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني جرّاء استمرار المراهنة الرسمية الفلسطينية على «التعلّق» بانفراجات سياسية، «قد» تحدث بسبب وعي وإدراك «المجتمع الدولي» بالأخطار القائمة، ووصل حالة الانسداد السياسي إلى ذروتها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، واستمرار النهج الإسرائيلي والتوغل، بل والتوحش الإسرائيلي في القتل والهدم والتهويد والمصادرة وإطلاق العنان للاستيطان ولهجمات المستوطنين، إضافة إلى حُمّى التنافس بين أطراف اليمين الإسرائيلي على رفض الحلول السياسية، ورفض التفاوض، ورفض مطلق لكل ما يمتّ بصلة للتسويات السياسية.
وكانت هذه القراءات ـ وما زالت ـ ترى أن الانقسام، وما نتج عنه من شرذمة في الحالة الوطنية والاجتماعية، وفي حالة الاستقطاب المرضية القائمة ما يحول بكل «تأكيد» دون أن ينفجر الوضع بصورة شاملة، وبما ينذر ويؤسس لوضع هو أقرب إلى هبّة وطنية كبيرة ستكون المنطلق والبداية لانتفاضة جديدة قد تكون هي النموذج الثالث الجديد في أشكاله ومفاعيله وأبعاده وتجلّياته، وكذلك في كلفته على المجتمع الفلسطيني، وعلى الاحتلال.
وكانت هذه القراءات ـ وما زالت ـ ترى أن صعوبة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وحالة التجويع والحصار لقطاع غزة، والضغوط الكبيرة على موازنات السلطة الوطنية، واحتياج أكثر من مليون مواطن ومواطنة إلى رواتب هذه السلطة لسدّ رمق العيش، ستحدّ كثيراً، وستكبح اندفاعات كبيرة نحو الهبّات ونحو الانفجار الكبير.
وهناك علاوةً على هذا كله من يرى أن «استشراء» الفساد، واستمرار الصراع على سلطات لا تملك من السلطة حتى بمفهومها (الرخو والسائل) شيئاً يُعتدّ به، وتحول هذه السلطات إلى سلطات لم تعد تضمن البقاء والاستمرار إلا من خلال «التفاهم مع الاحتلال على محددات هذا البقاء، بصرف النظر عن مسمّى هذه المحددات، وبصرف النظر، أيضاً، عن وسائل الدفاع عن هذا «التفاهم»، وعن وسيلة التسويق الإعلامي، وشكل التبرير والتفسير الذي تلجأ إليه تلك السلطات في الضفة والقطاع على حدٍّ سواء.
لا يستطيع المرء مهما تجرد من مشاعره وعواطفه إلاّ أن يرى أن كل هذه الأسباب والعوامل هي من الأسباب والعوامل الواقعية وهي ليست ثانوية، وليست مفتعلة، ولها أسانيدها في الواقع المعاش، وهي أصبحت وتحولت إلى عقبات كبيرة أمام أي تصور لانفجارات كبيرة وعارمة وشاملة في مواجهة الاحتلال.
لكن هذا التصور لا يغطي كامل مساحة المشهد السياسي، وهذه الصورة ليست سوى واجهة واحدة من جنبات المشهد الحقيقي.
المشهد إذا أخذنا له صورة «ثلاثية الأبعاد» سيبدو مختلفاً عن تلك الصورة التي لا تعكس سوى واجهة واحدة.
انسداد الأفق السياسي ليس سبباً كافياً ونهائياً «لاستنكاف» الناس عن مواجهة الاحتلال، و»المراهنات» الرسمية على حلول واهمة وموهومة، وعلى البقاء والاستمرار (محكوماً) بالمعادلة الإسرائيلية وحساباتها وتنافساتها الحزبية، والصراعات بين مكوناتها وانقسام هذه الصراعات إلى صراعات المتطرفين ضد الأكثر تطرفاً، أو إلى صراعات بين من يدعو إلى الالتهام والبلع، أو إلى الهضم والقضم لن تؤدي بالضرورة إلى اليأس والإحباط، وليست وصفة للهدوء والاستكانة، أو ليست وصفة دائمة.
بل على العكس، إذ يمكن ـ إذا توفرت قيادات وطنية ميدانية تمتلك الخبرة والكفاءة، ولها رصيد كفاحي تراه الناس وتثق به ـ أن يؤدي إلى الإقدام على المواجهة، وإلى تحدي الاحتلال، وإلى الانخراط الواعي في مقاومته.
لم تقف القيادات الرسمية خلف انتفاضة الشيخ جرّاح، وكانت هذه القيادات على الجانبين، وما زالت تتلكّأ في دعم المبادرات الشعبية، خوفاً من «فقد» السيطرة، أو خشية من أن تصبح هذه المبادرات هي السلاح الوحيد، ما يعيد كل «الأسلحة» الأخرى، أو يجبرها على التحرك بغير هدف الإبقاء على السلطة المسيطرة على هذا السلاح، ولهذا فإن المبادرات الشعبية وبسبب مواقف تلك القيادات، ومراهناتها تحديداً، وبسبب خوفها على مصالحها وامتيازاتها تهدف دوماً إلى استثمار كل حدث من أجل عدم إبقاء مفاعيله عند حدود تلك المواقف والرهانات والارتهانات والمصالح والامتيازات.
الفعل الشعبي، والدور الشبابي النشط، المتحرر من اعتبارات هنا وأخرى هناك، والذي يؤمن بالقدرة ويمتلك الكفاءة والإرادة، وناحية الوسائل والأشكال، ويلمّ بكل المعارف المطلوبة ويجيد التعامل مع لغات العصر وأشكال وعيه الجديدة.. الفعل الشعبي لم يعد تقليدياً، والمبادرات الشعبية تجاوزت في الشكل والمضمون الصور التي كانت لدينا عن مديات وآفاق هذه المبادرات.
الأجيال الفلسطينية الجديدة ـ لمن يُريد أن يعرف ـ غادرت منذ زمن بعيد طريقة تفكيرنا، وتجاوزت بأميال ما اعتدنا عليه من أنماط في هذا التفكير.
درجة الإجرام الإسرائيلي، والصلف الذي تتصرف به قوات الاحتلال، والهمجية المنظمة لقطعان المستوطنين، وتحويل حياة الفلسطيني إلى جهنم لا تطاق، والتحكم بلقمة عيشه، وربط هذه اللقمة بالاستكانة والخضوع، بل وبالإذلال في الضفة والقطاع، واستمرار النهج «الابارتهايدي» ضد أهلنا في الداخل، وتجييش المجتمع الإسرائيلي كله ضد (الخطر) الذي يمثله أهلنا هناك من وجهة نظر الإسرائيلي بكل أطيافه وطوائفه، كلها أسباب تجعل من تحول المبادرات الشعبية إلى فعل شعبي مقاوم، صلب ومواجه، يراكم في كل مبادرة للمبادرات القادمة.
من ضاق ذرعاً بالواقع يستكين فقط إلى حين، ويستكين إذا افتقد للتجربة الكفاحية، ويستكين إذا افتقد للقيادات الوطنية، ويستكين فقط إذا انخدع أو تم تضليله.
في الواقع الفلسطيني، كل شيء بات على المكشوف. المواقف الرسمية على جانبي الحالة الوطنية واضحة ولا تحتاج إلى أي عبقرية سياسية لمعرفة حدودها وأهدافها. وإسرائيل تعيش أوضح سياساتها منذ نشأتها وحتى الآن، والأجيال الفلسطينية الجديدة لا هي من فئات المواطنين ولا هي من المنتفعين، ومفهوم الوطن والوطنية أصبح أكثر نضجاً، وأكثر معرفة، وأكثر قدرة وكفاءة، ولهذا فإن الانفجار قادم، وهو كبير لأنه هو الحل الوحيد المتبقي.