قبل عشر سنوات من الآن، عرض علي رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط السعودية، الأستاذ عبد الرحمن الراشد، إصدار طبعة فلسطينية من الصحيفة الخضراء، لتكون بذلك دولة فلسطين، هي الدولة الثامنة في العالم، التي تطبع فيها صحيفة العرب الأولى، إلى أن تمت دعوتي لهذا الغرض، إلى الرياض، ليجري الاتفاق والإعلان عنه في حفل مهيب، بحضور خادم الحرمين الملك سلمان، الذي كان أميرا للرياض آنذاك، كما حضره لفيف من الأمراء، وأبرز رؤساء تحرير الصحف في العالم العربي، قبل أن نختلف بعد أقل من شهر ليجمد المشروع كليا، نظرا لإصراري على أن يكون ديسك تحرير الطبعة الفلسطينية، في فلسطين لا في لندن.
كان هذا المشروع سيجعلني من أثرياء الصحفيين في فلسطين ماديا، ولكنه سيحرم الأخيرة من التحكم بتحرير طبعتها الفلسطينية، وهو ما رفضته وأصرت عليه إدارة الصحيفة التي نحترم ونتفهم سياستها.
لا أروي تلك الحكاية من باب الاستعراض والمتاجرة بالمواقف، فلستُ ممن يستعرضون ويتاجرون، وإنما من باب انصاف الذات، والتأكيد على أننا لا نضمر حسد معيشة لأحد، بقدر ما كان بإمكاننا أن نثرى دون رشوة أو فساد. غير أننا آثرنا مع سبق الإصرار أن نبقى كما كنا منذ البداية، مع ركب الصحافة الوطنية لا غيرها، كونها المعبر الحقيقي، عن هموم الناس ومشاكلهم، على عكس الصحافة الأجنبية، وهذا رأي لا حكم، رغم ما فيها من توسعة لباب الرزق، ولكنها في غالب الأحيان، لا تنتج خبرا بنكهة معاناة الناس، وفقا لضوابط ومعايير، يعرفها أهل الاختصاص، قد تفرضها الوكالات والصحف العربية والأجنبية.
وأذكر قبل خمسة وعشرين عاما، أنه كلما عرض أحدهم علي، الالتحاق بركب الصحافة الأجنبية، أنني كنت أقول ممازحا أن الصحافة الوطنية توفر لي لقمة خبز، تعينني على الحياة والعمل، وهذا يكفيني، دون الخوض في تفاصيل معاكسات الحالة.
والآن، أي بعد ما يقارب الثلاثين عاما، من العمل في حقل الصحافة، مراسلا، فمحررا، فمديرا للتحرير، ثم مؤسسا ومديرا في غزة لأول صحيفة يومية، تصدر في عهد السلطة الوطنية، اكتشفتُ وأنا على مشارف العقد الخامس من عمري، ولأول مرة؛ أنني لم ولا أمتلك في كل فلسطين أو خارجها مترا واحدا، كملكية خاصة، وأن كل ما أمتلكه بعد سنوات طويلة، من العمل في الوظيفة العمومية، هو 170 مترا من الهواء على شكل شقة في غزة، فيما أعيش مستورا في رام الله، براتب يتآكل بديون بنكية، تبدأ بما يسمى بالمدين الدوار، مرورا بقروض متتابعة من التأمين والمعاشات، دون أن تنتهي بدين رهن عقاري طويل الأمد، لشقة مرهونة بالكامل لبنك القدس سأورثها لأبنائي والبنك معا، مع ديونها إن قضت مشيئة الله وحان الرحيل، عام 2029م، أو لا قبل ذلك. بالإضافة إلى مركبة صغيرة من نوع فورد 2004 بسعر 13 الف شيكل تم تسديدها بالكامل لحساب وزارة المالية .
تلك الحقيقة لا أخجل منها، رغم أننا وبكل حسرة نتحول إلى مجتمع تحكمه القيم المادية، و لا يقيم وزنا للقيم المعنوية، ومع ذلك عشت مع هذه الحقيقة، دون أن تستوقفني، لإيماني المطلق بأن فلسطين، من رأس الناقورة وحتى رفح، هي أرضي ووطني وملكي وملك أجدادي من قبل. ورغم ذلك لا أعلم لماذا وقفت مشدوها أمام استمارة إقرار الذمة المالية.
لعل سبب دهشتي وشدوهي، هي عشرات الأسئلة المتعلقة بالأموال، والممتلكات المنقولة وغير المنقولة، التي تكررت في معظم صفحات استمارة إقرار الذمة المالية، واكتشافي أنني لا أمتلك من المال والعقار، بعد كل هذا العمر والعمل، ما يستحق أن ينقل لذمة أحد !!
أو قد يكون السبب، خشيتي وأنا على مشارف خريف العمر، والأعمار بيد الله، على مستقبل ولديَ سراج ونور، ووالدتهما الصابرة من مجتمع غلبته المادية، سيما وأنهم يسددون ثمن هجرتهم القسرية، عن مسقط رأسهم فاتورة دفاع والدهم، عن وحدة ومصير كل الوطن، بعد أن رفض الاستكانة والخضوع لسلطة الانقلاب !!
أو لعل السبب هو ما مر في مخيلتي، من أسماء كثيرة عملت أو تعمل في الوظيفة العمومية، أو في فصائل منظمة التحرير وحركة حماس، والمنظمات الأهلية، وفي رأسي أكثر من علامة استفهام، تتعلق بحجم ومصدر أموالهم، وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة !!!
أخي الكبير أبو شاكر :
لا أفهم ما هي الحكمة، في أن يبقى إقرار الذمة المالية، حبيس أدراج هيئة مكافحة الفساد، في مجتمع تتقاذفه الشائعات والأقاويل، ويعيش حالة من فقدان الثقة ما بين نخبه وعوامه؟ ألسنا أحوج ما يكون للشفافية والمكاشفة في ظل محاولات بعض الفاسدين خلط الحابل بالنابل؟ ثم كيف يمكن أن يتسنى لي كمواطن أولا، وصحفي ثانيا، مراقبة أعمال هيئة مكافحة الفساد ونزاهتها، في ظل غياب المجلس التشريعي، فهم ليسوا بملائكة بل بشر مثلنا، يصيبون ويضعفون فيخطئون ؟
فما الذي يضيرنا لو سمحنا لكل مواطن الاطلاع على الذمة المالية لأي مسؤول ومراقبتها بنفسه على موقع الهيئة الالكتروني، وصولا إلى أوسع رقابة شعبية ومشاركة مجتمعية في مكافحة الفساد ؟
ثم قل لي بربك : هل سرية إقرار الذمة المالية وحماية القانون لها من أيدي الهيئة بالظرف المختوم تعني أن سؤال المسؤول، "من أين لك هذا !!؟" سيبدأ من تاريخ إقراره بامتلاك ما يملك الآن، ثم نذهب إلى قاعدة "عفا الله عما سلف"، أم يجب أن يبدأ هذا السؤال من تاريخ استلامه المسؤولية ؟
أخي أبو شاكر:
ها قد أودعت إقرار الذمة المالية إلى سكان الأرض والسماء، لأنني أخشى مع انحسار منظومة القيم المعنوية، أن يأتي الزمان الذي يخجل فيه من زهدهم، ليتحول شعار النزاهة التاريخي، "من أين لك هذا ؟" إلى حالة مفروغة القيم، بسؤال "لماذا ليس لك هذا !!؟". أو أن يأتي الزمان الذي يتجاهل فيه الناس معنى ومغزى الآية الكريمة "وأما بنعمة ربك فحدث". وأنتظر أن يقابلني بمثل هذا الإشهار كل من أعضاء التنفيذية، والمركزية، والحكومة، وأعضاء المجلس التشريعي، والمكاتب السياسية للفصائل، وقيادات حماس، وكبار ضباط الشرطة، ورؤساءالأجهزة الأمنية، ومدراء المنظمات الأهلية، ومجالس إدارات شركات المساهمة العامة، حتى لو لم يلزمهم القانون بذلك؛ فلا الفقر عيب ولا النعمة حرام. وسأكون فخور بك أكثر أخي أبو شاكر لو فعلتها وطالبت بتعديل القانون الذي لا أفهم مغزى حكمته في "تكتم وسرية" تنتقص من سعينا المعلن نحو الشفافية والمكاشفة والرقابة الشعبية والمشاركة المجتمعية في محاربة الفساد.