الأزمة الأوكرانية: محاولة روسية لخلخلة أحادية القطبية الدولية

-الجرباوي-e1612662683110.jpg
حجم الخط

بقلم علي الجرباوي

 

 

 

في العام 1988 قدّم المؤرخ السياسي القدير، بول كينيدي، رؤيته حول مستقبل أميركا في كتابه المعنون: صعود وسقوط الدول العظمى، والذي نال شهرةً عالميةً بترجمته إلى لغاتٍ عديدة.
بالعودة إلى التاريخ، وبتحليل مسيرة حياة الدول العظمى السابقة، وتبيان الأسباب الكامنة خلف صعودها، ووصولها إلى قمّة الهرم، ثمّ انحدارها وأفولها، تنبأ كينيدي بوصول أميركا إلى مرحلة الانحدار والأفول.
من دراسته للحالات السابقة التي بنى عليها استنتاجه المتشائم حول مستقبل أميركا، وجد كينيدي أن أهم سبب أدّى إلى سقوط تلك الدول العظمى كان وقوعها جميعها في الخطأ القاتل، والذي أطلق عليه مفهوم «تمدّد القوة».
باختصار، وجد كينيدي أن هذه الدول عندما تصل إلى قمّة الهرم تصيبها حالةٌ من الاعتداد بقدراتها، وخصوصاً بقوّتها العسكرية، وتبدأ بتوظيف هذه القوّة للتمدد وفرض هيمنتها على النظام الدولي.
ولتمويل هذا النهم للتمدّد، تستهلك القوة العظمى طاقتها الاقتصادية، ما يؤدي إلى استنزاف إمكانياتها، ويحدّ من قدرتها ليس فقط على استمرار المواصلة، بل أيضاً على حلّ مشاكلها الداخلية التي تأخذ في التراكم نظراً لاستهلاك اقتصادها في تمويل حملاتها وحروبها الخارجية.
هذا ما حصل في السابق مع الإسكندر المقدوني، وللإمبراطورية الرومانية، وهو ما حصل أيضاً مع الاتحاد السوفييتي في الحرب التي استنزفته في أفغانستان. ولكنّ أميركا لم تتعظ من إنذار كينيدي، وخاضت بعده حربيْن استنزفتا الكثير من طاقتها، وأدّتا إلى تفاقم المشاكل الداخلية التي تعاني منها حالياً.
لا يتوقف خطر «تمدّد القوة» على مكانة القوى العظمى فقط، كما جرى حصره من قبل كينيدي. بل يمكن أن نقوم بسحبه لينطبق على القوى التعديلية؛ تلك التي تحاول إحداث تغيير في بُنية النظام الدولي السائد لتعديل علاقات القوّة فيه لصالحها. فهي إن أخطأت في حساباتها، وقامت بمحاولتها التعديلية عن طريق القيام بعملية تمدّد غير محسوبة جيداً، فإن التكلفة عليها يمكن أن تكون باهظة، وعوضاً عن تعزيز مكانتها في النظام الدولي، يمكن أن تصاب بهزيمةٍ تؤدي إلى اندحار هذه المكانة.
هذا الأمر حدث مرتيْن في التاريخ الحديث. أوّل مرّة كانت في مطلع القرن التاسع عشر، حينما حاول نابليون أن يخرق بُنية النظام الدولي القائم حينها. في ذلك الوقت كان النظام الدولي أوروبياً متعدد الأقطاب، يتشكّل من تراتبية هرمية للدول الأوروبية، ويقبع على قمّته خمس دولٍ كانت في حينها هي الكبرى، وهي: بريطانيا، وفرنسا، والنمسا - المجر، وبروسيا، وروسيا.
كان ذلك النظام يقوم على تفاهمٍ بين تلك الدول الكبرى بأن لا يقوم أيٌّ منها بخلخلة «توازن القوى» القائم بينها، وإن حصل وحاولت دولةٌ ما التمدّد من أجل الهيمنة، فإن على الدول الأخرى إقامة تحالف فيما بينها لمحاربة الدولة المُخلّة وإعادتها إلى وضعها السابق قبل قيامها بـ»المغامرة».
وعندما قام نابليون بمغامرته واجتاح أوروبا وصولاً إلى أبواب موسكو، تحالفت الدول الأوروبية ضدّه، حتى هزمته الهزيمة الكبرى في معركة «واترلو» العام 1815، منهيةً حكمه لفرنسا.
لم ينجح نابليون الذي أساء تقدير قوته أمام قوة أعدائه، ودفع ثمن «تمدّد قوة» بلاده بالتسبّب بإلحاق الهزيمة بها، وبقي النظام الدولي صامداً على وضعيته السابقة.
أما المرّة الثانية فكانت أيضاً في أوروبا، وحصلت قبل منتصف القرن العشرين، عندما أخلّ هتلر بتوازن النظام الدولي الذي كان لا يزال أوروبياً ومتعدد القطبية، وقام بمغامرته للإطاحة بذلك النظام واستبداله بآخر تهيمن عليه ألمانيا النازية. ومع أنه حقّق في البداية مجموعة نجاحاتٍ في التوسع شرقاً وغرباً في الدول المحيطة به، إلا أنه وقع في خطأ الإيغال في «تمدّد القوة» عندما شنّ حملته العسكرية الفاشلة على الاتحاد السوفييتي، ووصل كما نابليون إلى أعتاب موسكو. ولكن تحالف الدول الأوروبية، بإسنادٍ من أميركا، قام بدحر جيوشه من الشرق والغرب، وحُسمت الحرب بانتحاره وباحتلال ألمانيا وتقسيمها إلى جزأين. ولكن الأمر بالنسبة لبُنيّة النظام الدولي لم تنتهِ بصموده هذه المرّة، بل تسبّب تهوُّر هتلر بتغيير بُنيته، ليس من داخله وإنما من الخارج، إذ لم يعد أوروبياً متعدد الأقطاب، بل أصبح ثنائي القطبية، يقبع على قمّة هرمه أميركا والاتحاد السوفييتي. لقد وقع هتلر في نفس خطأ نابليون، ودفع الثمن غالياً.
الآن، ونحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، نشهد وضعاً قد يكون مشابهاً لحالتيْ «تمدّد القوّة» لقوتيْن تعديليتيْن سابقتين خلال القرنيْن الماضييْن. فالأزمة الأوكرانية تفتح المجال أمام إمكانية الحسابات الخاطئة في كلا الاتجاهيْن. من ناحية، قد تكون الدول الغربية، بقيادة أميركا التي تقبع على قمّة النظام الدولي أحادي القطبية حالياً، قد ارتكبت خطأ في حسابات «تمدّد القوّة» عندما ضغطت على روسيا بتوسيع حلف الأطلسي بقبول عضوية دولٍ كانت ضمن الكتلة الشرقية سابقاً، ما أوصل الحلف إلى حدود روسيا في شمالها الغربي. وزاد الأمر سوءاً بالنسبة لروسيا عندما أصبحت أوكرانيا تضغط بقوّة لقبول طلبها بالانضمام للحلف. وسماح روسيا بتنسيب أوكرانيا لعضوية الحلف سيتسبّب بالكثير من المتاعب لها، لما لأوكرانيا من ثقلٍ كان واضحاً منذ أيام الاتحاد السوفييتي، ولموقعها كمنفذٍ مهمٍّ على المياه الدافئة التي ما فتئت تشكّل هاجساً وهدفاً روسيّاً استراتيجياً.
إن استفزاز روسيا بهذه الطريقة الفجّة هو مغامرة فتحت على الغرب بوابة أزمة لا يُعرف كيف ستكون نتائجها، خصوصاً أن مطالبة روسيا التعديلية لبُنية النظام الدولي الحالية ليست سرّاً، بل هدفٌ روسي ليس معلناً فقط، بل تقوم روسيا أيضاً، وبتحالفٍ مع الصين بهذا الخصوص، بالدفع لتحقيقه بممارسة الضغوط في مختلف المحافل والاتجاهات.
تريد روسيا تعديل النظام ليصبح متعدد القطبية، ليكون لها فيه دورٌ مؤثّر بعد أن بدأت تستعيد عافيتها التي فقدتها لفترة كانت فيها أوضاعها مريرة إثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
أما من الناحية الثانية، فإن بوتين وضع بلاده في عنق زجاجة، فقد أعلن عن معارضة بلاده القطعية لهذا الانضمام، وهدّد، وحشد جيشاً قوامه حتى الآن ما ينوف على 150 ألف جندي، وقام مع بيلاروسيا بمناورات شملت التعامل مع أسلحة استراتيجية، أوصلت أميركا للإعلان عن حتمية غزو روسيا لأوكرانيا.
في حال قام بوتين بما يهدّد به، وغزا غريمته، من الممكن أن يكون قد تجاوز حدود «تمدّد القوة» الممكنة لبلاده، وأقحم نفسه في مواجهةٍ غير محسوبة التكاليف، وبالتحديد عندما تتعرّض بلاده إلى عقوباتٍ اقتصادية عميقة تهددها بها أميركا وحلفاؤها الغربيون، وإلى حرب استنزاف طويلة الأمد وباهظة الكُلفة، كما حصل للاتحاد السوفييتي وأميركا تباعاً في أفغانستان. وبالتالي، قد تكون النتيجة النهائية عكس ما أرادها بوتين، وتنتهي المواجهة بإضعاف روسيا عوضاً عن زيادة قوّتها. ولكن يجدر الانتباه إلى أن بوتين قد يكون يستخدم مسألة عضوية أوكرانيا في حلف الأطلسي ليس بسبب تخوّفه من هذا الانضمام، وإنما كذريعةٍ للهدف الاستراتيجي الحقيقي المستتر الذي يسعى لتحقيقه، وهو استعادة أوكرانيا للحظيرة الروسية.
في هذه الحالة، يمكن أن تكون النتيجة في صالح روسيا إذا كانت حسابات بوتين في محلّها، وإذا كان رتّب مواجهة بلاده لما ستتعرض له من عقوبات اقتصادية من خلال فتحةٍ خلفيةٍ من الجهة الصينية. فإذا استطاعت روسيا الصمود في وجه العقوبات، فإنها ستكون قد خلخلت أحادية القطبية الدولية، خلخلة ستؤدي إلى انعكاسات جوهرية على مستقبل النظام الدولي والعلاقات الدولية.
ويمكن أيضاً أن يكون بوتين مستوعباً للتاريخ، ولمغامرات «تمدّد القوة» الفاشلة، واعياً لنتائج الخطأ الممكن لروسيا الوقوع فيه في حال تكرارها لمغامرةٍ شبيهة، وأن يقوم لذلك بكبح جماح الرغبة الروسية بالتمدّد غرباً، والاكتفاء بـ»حركشة» محسوبة لهزّ استمرار تربّع أميركا على قمّة النظام الدولي.
وبالتالي قد تكتفي موسكو بإعلان اعترافها بالمقاطعتيْن المواليتيْن لها في شرق أوكرانيا كجمهوريتيْن مستقلتيْن، وتستولي عليهما، كما فعلت سابقاً ونجحت في استعادة شبه جزيرة القرم، ونفدت بفعلتها.
تفتح الأزمة التي بدأت درجة حدّتها بالتصاعد حالياً الباب مُشرعاً أمام مختلف الاحتمالات، ولكنها بالتأكيد ستشكّل لدارسي العلاقات الدولية مثالاً جديداً مثيراً على مفهوم «تمدّد القوة» وارتباطه ليس فقط بمسألة صعود وسقوط الدول العظمى، وإنما بمحاولة القوى التعديلية تحقيق مكاسب بإحداث تغيير على بُنية النظام الدولي.
ومن المتوقع أن تكون نتيجة هذه الأزمة مثالاً سيصبح مادة حيوية للبحث والتدريس، يضاف إلى ما جاء به بول كينيدي من أمثلة سابقة.