“الأبرتهايد”.. القضائي الإسرائيلي : أدلة وحلول

حجم الخط

بقلم: المحامي الاسير طارق برغوث

 

من خلال متابعتي لإحدى القضايا المنظورة أمام المحكمة العسكرية الاسرائيلية، استطعت أن أميز، وبكل وضوح، المتحور الأكثر خبثاً وتطوراً “الأبرتهايد”.
والأبرتهايد هو الذروة التي قد يصل إليها أي نظام عنصري مؤسس على عقيدة التفوق العرقي.
بدأت وقائع القضية عندما قام شاب فلسطيني، يعمل في مستوطنة اسرائيلية، بضرب شاب يهودي بواسطة أداة حادة، مما أفضى إلى جروح عميقة ومتعددة، في مختلف أجزاء جسده، إلا أن الهجوم لم يسفر عن الموت، ولذلك قدمت النيابة لائحة اتهام ضد الفلسطيني بمحاولة القتل العمد، وطالَبت النيابة بإيقاع عقوبة السجن المؤبد، وعللت مطالبتها تلك، “ببشاعة الأفعال الموسوطة” المطلوبة بلائحة الاتهام، بالمقابل وأثناء مرافعتي العقوبة، طالبت بعدم تجاوز الحد الأقصى للعقوبة المحددة بقانون العقوبات المعمول به أمام المحاكم الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، وعللت مطالبتي بفرضية قلب الصورة، حينما تساءلت: ماذا لو أقدم الشاب اليهودي المتواجد في نفس المكان مستخدماً الأداة ذاتها مهاجماً الفلسطيني ومتخذاً لظروف مماثلة ؟.
هل ستقبل النيابة، آنذاك بالمطالبة بابقاء عقوبة السجن المؤبد؟، بالتأكيد أنها لن تفعل ولن تستطيع القيام بذلك، ببساطة لأن القانون يمنعها من ذلك، فالشاب اليهودي الذي سيحاكم بالمحكمة المركزية بالقدس، لن يكون معرضاً إلى عقوبة حدها الأقصى ٢٠عاما.
بعد المداولة قررت المحكمة العسكرية أن تلقي على الفلسطيني عقوبة السجن الفعلي لمدة ٣٠ سنة، بعد أخذها بعين الاعتبار كل الظروف -بما فيها تلك المخففة؟-.
يبدو أن القضاة اكتفوا بـ١٠ أعوام إضافية تأكيداً منهم عن الفارق بين الدماء الجارية في العروق المختلفة، مع أن خالقها اختار لها لوناً واحداً، وهو الأحمر.
هذه النهاية لم يحظ بها المئات من الأسرى الفلسطينيين الذين أدينوا بتهم مشابهة، أي محاولة القتل، وأيضاً المساعدة والتسبب بالقتل، فالقانون الساري في المحاكم العسكرية يمنح الحق لهذه المحاكم بالقاء عقوبة السجن المؤبد اذا ما تمت إدانة المتهم بتلك “الأفعال”.
لفهم هذا الواقع العنصري، لا بد لنا من الرجوع في الزمن الى الوراء، وتحديداً العام ١٩٦٧، ففيه احتلت إسرائيل، الضفة الغربية. وقانون العقوبات الأردني هو القانون الذي كان ساريًا بهذا الإقليم، هذا القانون القديم، الذي أكل عليه الزمن وشرب، ما زال هو القانون المعمول به أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية .
إسرائيل، وانطلاقًا من موقف ينمّ عن خبثٍ إجراميّ، تتذرع بنص المادة -٦٤- من اتفاقية جنيف الخاصة بإدارة شؤون الأقاليم المحتلة، كيف تبرر عدم إقدامها على تعديل قانون العقوبات، بما يتناسب مع التطورات التي طالت جلَّ القوانين المقارنة في مختلف دول العالم، متأثرةً برياح التغيير القادمة من الروح المتجددة لمنظومة حقوق الإنسان.
بهذه الطريقة أضفت إسرائيل على قانون العقوبات الأردني بالرغم أن نص هذه المادة -64- تعطيها الحقّ في تعديله وفقاً لمصالح سكان الإقليم المحتل.
إن التطبيق الانتقائي لبنود اتفاقية جنيف يتماشى مع مصالح إسرائيل، ليس كدولة احتلال وإنما كدولة استعمارية تسعى لبناء وتطبيق نظام شامل للفصل عنصري، من شأنه أن يكونَ أكثر ذكاءً وتمويهاً وصموداً من توأمه البائس في جنوب إفريقيا.
الاحتلال، ووفقاً لقضاء القانون الدولي العام، هو إجراء مؤقت.
انطلاقاً من هذا المفهوم، يجب على دولة الاحتلال الانسحاب من الإقليم المحتل بأقرب فرصه، مباشرة بعد زوال الظروف التي أدت الى الاحتلال، وبالرغم أن حقيقة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية عام 1967 هي ثمرة لحرب عدوانية، إلا أنها مستمرة منذ 55 عامًا باتباع سياسة المماطلة والتسويف، تارةً تتذرع بحجج أمنية واهية، وتارةً أخرى تتدعي انعدام وجود شريك باستطاعته استكمال التفاوض من أجل تولي مهام إدارة الإقليم .
بيدَ أن الحقيقة تكمن بنوايا معاكسة تمامًا لتلك التصريحات، فإسرائيل تريد ضمّ الإقليم، لكنها تعد العدة للقيام بمثل هذه الخطوة، فهي لا تريد أن تخسر مكانتها المزعومة كـواحة للديمقراطية في صحراءٍ ديكتاتورية.
ومن داخل هذه “المعمعة”، تقوم اسرائيل بإرسال الشباب الفلسطيني إلى “المطحنة” المسماة بالمحكمة العسكرية، هي تطحن أعمارهم وحرياتهم بواسطة قوانين شرعت قبل أكثر من ٦٠ عامًا ولم تعد تصلح للاستعمال البشري.
إن المشرّع الأردني عمل على إنزال عقوبة السجن المؤبد فيما يخص جرائم محاولات القتل، والمساعدة والتسبب بالقتل، منذ أبدٍ بعيد، وما حل مكانها عقوبة السجن المحددة لا يتجاوز سقفها مدة ١٥ عامًا، إلا أن إسرائيل ما زالت تحتفظ بتلك العقوبة كنوع من التنكيل بالأسرى الفلسطينيين.
يقبع في السجون الإسرائيلية عشرات الأسرى الذين يقضون عقوبة السجن المؤبد، بسبب إدانتهم بتهم مشابهة، مصير كهذا كان بالإمكان تفاديه، لو أن المشرّع الإسرائيلي قامَ بما يجب عليه القيام به منذ زمن بعيد.
هذا النموذج يعد كافياً من الناحية الدلالية، لفضح أصابع الأبرتهايد في القضاء الإسرائيلي، هذا الطابع يزداد وضوحاً باستقرار، كلما تقدم عمر الاحتلال الآخذ بفقدان صفته المؤقتة رويداً رويداً.
في ظل هذا الواقع، ما الذي يجب القيام به من أجل تجريد هذه “المطحنة” من ضروسها الفولاذية؟.
على المستوى القضائي، إن ما يسمى المحكمة العليا الاسرائيلية، لها كامل الصلاحية للبت في هذه المسألة المبدئية، أي تعديل قانون العقوبات الأردني.
هذه المحكمة سبق لها أن أحدثت درجة تقاضي جديدة للنظام القضائي العسكري، هذا الأخير لم يكن يحتوي على درجة الإستثناء، وذلك لغاية عقد الثمانينات من القرن المنصرم، في هذا العقد قامت مؤسسة اسرائيلية، وهي مؤسسة “حقوق المواطن”، بتقديم التماس في المحكمة العليا على إثره تم استحداث محاكم الإستئناف العسكرية.
ان خطوة مشابهة قد تؤدي الى تعديل قانون العقوبات الساري في المحاكم العسكرية، مما سيغير مصير عشرات الأسرى الفلسطينيين المحكوم عليهم بالسجن المؤبد، وأحكام تتجاوز العشرين سنة، حيث سيكون بمقدوره التوجه من جديد للقضاء العسكري لتعديل الأحكام بما يتوافق مع القانون المعدل، لأن القوانين تسري بأثرٍ رجعي، إذا كانت تصب في مصلحة الفرد.
أما على المستوى السياسي، الذي سيسير بالتوازي مع المعركة القضائية، فإن تشكيل فريق قانوني يختص أعضاءه بالقانون العسكري والقانون الدولي العام، بالإضافة إلى خبراء حقوق الإنسان، سيكون مصدراً جوهرياً لمحاربة الأبرتهايد القضائي.
هذا الفريق يجب تزويده بإحصائيات معتمدة بذكاء على المقارنة بين النظم القضائية المختلفة، من أجل التأكيد على الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات شاملة على نظام القضاء العسكري، هذا المستوى سيخاطب المجتمع الذي سبق له أن أظهر موقفاً فعالًا عندما حارب نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.