بدأت الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وكأي حرب فهي تنطوي بداهةً على مآسٍ وأهوال وضحايا، لذا فالأسئلة الأكثر إلحاحاً الآن هي: متى ستنتهي هذه الحرب؟ وهل يمكن التحكم بمستوياتها؟ ثم كيف ستنتهي؟ وما هي النتائج أو التداعيات التي يمكن أن تنشأ عنها، إن عاجلاً أو آجلاً؟
في الواقع ثمة صعوبة، وتسرّع، في أية محاولة لتقديم إجابات جاهزة على تلك الأسئلة، بيد أن ذلك لا يمنع من عرض الذرائع والتعقيدات والمداخلات التي تكتنف تلك الحرب، وأهمها:
أولاً، لعل من أهم سمات هذه الحرب إنها ليست حرباً بين طرفين فقط، وليست مجرد حرب إقليمية، بل إنها حرب ينخرط فيها بشكل مباشر أو غير مباشر عدد من الأطراف، وهي وإن لم تصل إلى كونها حرباً عالمية، إلا أنها تمتلك كل مقومات ذلك، أو يمكن أن تفضي إلى ذلك، وهذا هو مكمن خطورتها، الأمر الذي تحذر منه أو تأخذه معظم الأطراف في حسبانها.
ثانياً، ما يزيد من أهمية الملاحظة السابقة أن الطرف الروسي لا يخفي هدفه أو طموحه في شأن محاولته إقامة عالم متعدد الأقطاب، عبر استعادة روسيا مكانتها كدولة عظمى، في التاريخ، بل وفي الجغرافيا أيضاً، كما وفي العلاقات الدولية، أو في شكل النظام الدولي، إذ تحاول فرض رؤيتها للعالم. وقد تم التعبير عن ذلك في البيان الصادر عن لقاء القمة الذي جمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ في 4 شباط (فبراير) الجاري في بكين، والذي أكد رفض الثورات الملونة، واعتبارها ناجمة عن التدخل في شؤون الدول الأخرى بدعوى نشر الديموقراطية، وبأن لكل دولة طريقها الخاص، ونمط ثقافتها.
يبرر بوتين أيضاً، دخوله إلى أوكرانيا باعتبارها ضمن المجال الأمني الحيوي لروسيا، وأنها بتوجهها لحلف "الناتو" تشكل تهديداً استراتيجياً لها، وهو مبدأ إن تم سحبه على باقي الدول فإن ذلك سيشكل تهديداً للاستقرار العالمي، وسيجرد دول العالم الأصغر والأضعف من حقها في السيادة على أراضيها لصالح الدول الكبرى، علماً أن بوتين ذاته يتدخل في أوكرانيا مهدداً سيادتها ووحدة أراضيها، في حين أنه برر بعكس ذلك تدخله في سوريا، إذ ادعى أنه أرسل قواته إليها لدرء التدخلات الخارجية فيها والحفاظ على وحدة أراضيها!
ثالثاً، مشكلة بوتين أنه يريد استعادة الإمبراطورية الروسية، والسوفياتية، بواسطة القوة العسكرية فقط، وعلى أساس التوسع الجغرافي، وهو في ذلك يتناسى أن روسيا دولة قوية بجيشها، وكدولة نووية، فقط، لكنها ليست دولة عظمى، إذ إنها لا تمتلك مختلف وسائل القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، فهي لا تصدر شيئاً سوى الغاز والسلاح، في حين أن إيطاليا وكوريا الجنوبية أقوى منها اقتصادياً، علماً أن روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة (18 مليون كلم مربع)، وأكثر دولة لديها ثروات باطنية. على ذلك، ففي تلك الحرب ليس لدى بوتين ما يهدد به حلف "الناتو" سوى حيازته على سلاح نووي، وتلويحه به، في حين أن لدى دول حلف "الناتو" أو دول الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة وأوروبا عدداً من أوراق الضغط، المالية والاقتصادية والتكنولوجية وقوة النموذج، التي يمكن أن تضعف روسيا بوتين، وأن تفرغ هيمنتها على أوكرانيا من أية ميّزات، بل وأن تضعف روسيا ذاتها.
رابعاً، تتبدى مشكلة بوتين أيضاً، في محاولته تلك، في عدم مبالاته بالمجتمعات الأخرى التي لها رأي آخر، وثقافة أخرى، وخيارات أخرى. ففي رأيه أن أوكرانيا دولة تم اختراعها، وأن الأوكرانيين روس، بدلالة استخدامهم اللغة الروسية، وحتى إذا تجاوزنا ذلك، وتجاوزنا محاولات الروسنة إبان الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي، فإن اللغة لوحدها لا تشكل رابطة قومية، ولا الدين، فتشكيلها يحتاج إلى عناصر عديدة، ضمنها الثقافة المشتركة، والقبول المشترك، ودولة أمة تتأسس على المواطنة المتساوية. وباختصار فإن رابط الدين لا يجعل مسلمي أو مسيحيي العالم أمة واحدة، وهذا يتّسق مع رؤية الصهيونية لاعتبار اليهودية رابطة قومية؛ وعلى المنوال نفسه يمكن تناول رابط اللغة أيضاً، مع التذكير بأن بوتين تدخل في كازاخستان، رغم أن شعبها لديه لغته الخاصة مع ديانة وثقافة مختلفتين.
خامساً، ربما أن الأمر الوحيد الذي يمكن التأكد منه الآن، أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا عززت حلف "الناتو"، بعدما كاد يُنسى (كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب طالب بالتخلي عنه)، وشدّت من عصب الغرب، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي، ورسخت علاقات الاعتمادية الأوروبية على الولايات المتحدة، وفي المقابل عززت المخاوف الأوروبية من الطموحات الروسية.
على أية حال، فإن نقاش الحرب بتحولاتها وتداعياتها يتوقف على أمور عدة، أولها، مدى صمود جيش وشعب أوكرانيا. وثانيها، المدى الذي يريد أن يصله بوتين في حربه، بين أن تقتصر على إقليم دونباس، أو أن تشمل كل أوكرانيا، أو أكثر من ذلك، فلكل خيار تداعياته. وثالثها، طريقة تصرف الولايات المتحدة مع كل خيار. ورابعها، طبيعة الموقف الأوروبي.
مع ذلك قد يفيد هنا التذكير بثلاث حقائق، الأول، بأن بوتين حاكم فرد، لا يستطيع أحد الاعتراض عليه، إذ إن قراراته وخياراته لا تخضع للفحص ولا للنقاش في مراكز صنع القرار، ولا في هيئات شرعية، وهو شخص غير متوقع، ومزاجي، وفوق ذلك فهو يمتلك أزرار الأسلحة النووية، وهذا هو الجانب الأخطر في شخصيته، ومصدر حذر الدول في التعامل معه، ولعل هذا ما دفع وزير الخارجية الفرنسي للتصريح في 24 الجاري أن على بوتين أن يفهم أن حلف "الناتو" هو حلف نووي أيضاً. الثاني، أنه مهما حصل في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، فإن التداعيات التي ستنجم عن ذلك لن تجعل روسيا تربح شيئاً... هذا حصل سابقاً في أفغانستان، وحصل في سوريا، التي لا تستطيع فيها روسيا تمرير برنامج الإعمار، فهي تمتلك القدرة على الحرب والتدمير، ولكنها لا تمتلك القدرة والإمكانات على الإعمار. الثالث، إن الاتحاد السوفياتي (ومعه المنظومة الاشتراكية) سقط من تلقاء ذاته، وسقط بسبب العورات التي اكتنفته، وسقط من فوق، إذ تم تفكيكه بيد قادته أنفسهم، بمعنى أنه لم يسقط بجيش من الخارج، ولا بتظاهرات من الداخل، هو سقط، وكفى.
الفكرة أنه لا يمكن بناء نظام عالمي جديد، باستعادة أو بإحياء النظام العالمي القديم، عالم الإمبراطوريات وسطوة الدبابات.