مخطئ من يعتقد أن الحروب عبر التاريخ هي حروب عبثية، أية حرب قد تقع أو وقعت أو ستقع، لابدَ أن يكون لها ووراءها أسباب ودوافع وغايات، ولها أهداف محددة، كما لابدَّ أن يترتب عليها صياغة أوضاع جديدة ونتائج معينة، قد لا تقتصر آثارها بالضرورة على أطرافها المباشرين فقط، إنما قد تصيب أطراف كثيرة أخرى.
الحروب تتنوع بتنوع أهدافها واغراضها التي تشن من أجلها، هناك حروب دفاعية واخرى عدوانية، والحروب تخاض عادة من أجل حماية وتحقيق المصالح الوطنية والقومية، أو لمد الهيمنة والسيطرة والنفوذ، والصراع على السلطان بين الفئات والجماعات والدول، وتأخذ أشكالا وصورا متباينة ومتعددة.
من أجل أن نقف على اسباب ودوافع وغايات ومآلات الحرب الدائرة رحاها اليوم في أوكرانيا، لابد من العودة إلى القرن العشرين وما شهده العالم فيه من حربين عالميتين مدمرتين، وما نتج عنهما من تغييرات جغرافية واتفاقيات سياسية، واحلاف ومراكز قوى واقطاب ونظم وقواعد وقوانين ومنظمات دولية ..!
الحرب العالمية الأولى من 1914 إلى 1918 كانت دوافعها استعمارية توسعية بين الأفرقاء والأطراف المختلفة فيها والصراع على السلطان والهيمنة والنفوذ سواء داخل أوروبا أو خارجها في أفريقيا وآسيا، التي كان من نتائجها إلحاق الهزيمة بألمانيا والدولة العثمانية، وتوقيع اتفاقات الصلح بين الأطراف حيث فرض المنتصرون فيها شروطهم المذلة والمجحفة على الأطراف المهزومة ..
ونتج عن ذلك تقاسم مناطق النفوذ وتقاسم تركة أقاليم الدولة العثمانية بين الدول المنتصرة..
ونتج عنها نظام عصبة الأمم الذي يكرس هيمنة المنتصرين فيها.
ما أدى ومهد إلى ظهور الحركة النازية والفاشية، كنتيجة منطقية للشروط القاسية التي فرضت على الأطراف المهزومة، وما الحقته من جرح عميق للسلطان القومي لتلك الدول، وخاصة منها المانيا وإيطاليا، فقد أدى ذلك إلى تأجيج المشاعر الوطنية والقومية لدى شعوب الدول المهزومة، وأدى إلى ظهور وبروز الحركات النازية والفاشية فيهما كرد فعل على ما أصابهما من جرح عميق في سلطانهما الوطني والقومي، جراء تلك الإتفاقات التي لم تراعِ مصالحهما ومشاعرهما الوطنية والقومية، فكانت تلك الاتفاقات قد أسست ومهدت وأعطت المبررات للتحضير لنشوب الحرب العالمية الثانية، من 1939م إلى عام 1945 م، التي كانت نتيجتها هزيمة النازية والفاشية، وانتصار الإتحاد السوفياتي والعالم الغربي الرأسمالي الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة، من أهم نتائج هذه الحرب العالمية الثانية انشاء هيئة الأمم المتحدة القائمة اليوم كتعبير عن نظام دولي جديد ما بعد الحرب العالمية الثانية، من أجل أن يحقق الأمن والسلم والتعاون الدولي بين اعضائها، ويحقق ويحمي مصالح المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
كما كان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية انقسام العالم إلى معسكرين، شرقي وغربي.. الأول برعاية وقيادة الإتحاد السوفياتي والثاني غربي رأسمالي برعاية وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبح العالم في ظل ثنائية قطبية، تمخض عنها احلاف عسكرية وسياسية واقتصادية أخذت الصبغة الأيديولوجية، وابرزهما حلف وارسوا بقيادة الإتحاد السوفياتي وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، ودخل الحلفين في سباق تسلح غير محدود وفي حرب باردة بين الطرفين أو القطبين، وهذا لم يحول دون وقوع صراعات عسكرية محدودة بواسطة الوكلاء، كما مكن هذا الوضع من تأجيج حروب التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا والعمل على تصفية الإستعمار العسكري الغربي وحظيت حركات التحرر الوطني بدعم المعسكر الشرقي في مواجهة الدول الإستعمارية الغربية...
لكن سباق التسلح بين القطبين قد انهك الإتحاد السوفياتي اقتصاديا، مما أدى إلى تداعيه، وانفراطه وانفراط عقد الدول التي تدور في فلكه، ومن ثم انفراط وانحلال حلف وارسوا الذي يمثل الكتلة الشرقية السوفياتية وذلك في نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، وبالتالي حسم الحرب الباردة لصالح الكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، وانحسار الإمبراطورية السوفياتية إلى حدود الإتحاد الروسي.
كان من المنتظر بل من المتوجب أن تنتهي سياسة الأحلاف العسكرية والإقتصادية بعد انفراط الكتلة الشرقية الإشتراكية وتحوُل دولها بما فيها الإتحاد الروسي نحو اقتصاد السوق، ودخولها منظمة التجارة العالمية، وتراجع الأيديولوجيا الماركسية، واختفاء مبررات الصراع والحرب الباردة التي دامت قرابة خمسة وأربعين عاما، أن تؤدي إلى حل حلف الناتو أيضا.
لكن الذي حصل على اثر ذلك هو استمرار حلف الناتو وتوسعته، بضمه لعدد من دول أوروبا الشرقية التي كانت أعضاء في حلف وارسو المنحل، كما أصبحت تلك الدول اعضاء في منظمة دول السوق الأوروبية المشتركة، كما أن انهيار الإتحاد السوفياتي رافقه أيضا انهيار وتفكك الإتحاد اليوغسلافي، وتحوله إلى دويلات تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية.
بناء على ذلك تكون قد سطرت الرأسمالية الغربية ومذهبها الفلسفي الليبرالي الفردي الحر بقيادة الولايات المتحدة انتصارا ساحقا على المعسكر الشرقي وايديولوجيته الإشتراكية الماركسية والشيوعية، وبات العالم أمام نظام دولي جديد يتسم بالأحادية القطبية الأمريكية.
لقد أظهر القطب الأوحد الأمريكي تغولا وتوحشا في شن العديد من الحروب السياسية والإقتصادية والعسكرية خلال الثلاثة عقود المنصرمة دون روادع ودون قيود ودون احترام لأبسط قواعد القانون الدولي، وواصل تضييق الخناق على الأتحاد الروسي ومحاصرته، بشكل يهدد أمنه ومستقبله، بعد فقدانه لدوره ولحلفائه ولمجاله الجيوسياسي ...
مما الحق به ضررا بليغا وجرحا عميقا مسَّ سلطانه القومي ..
بل بات يهدد ويضغط بإتجاه تفكيك الإتحاد الروسي نفسه إلى عدد من الدول والكيانات المستقلة لتأكيد انهائه كقوة عظمى، كي تضمن الولايات المتحدة تسيدها على العالم طيلة القرن الحادي والعشرين، كما رسم ذلك مخططوا إستراتيجية أمريكا وفي مقدمتهم الرئيس نيكسون في كتابه نصر بلا حرب للقرن الحادي والعشرين، وكذلك منظري الليبرالية الجديدة من فوكويامه وآخرين، وبلوغ مرحلة الميجا امبريالية المسيطرة بقيادة الولايات المتحدة دون منازع أو منافس ..!
لقد ادركت القيادة الروسية جملة التحديات التي باتت تواجهها وتفرضها عليها الولايات المتحدة، التي بالغت في تحديها السياسي والإقتصادي والعسكري لروسيا، وللعالم اجمع بما فيه حتى لحلفائها التقليديين في أوروبا ولعالمنا العربي الذي سعت إلى إشعال الحروب الداخلية والبينية فيه، وعملت على اضعاف دوله وكياناته وضرب وتدمير نسيجه الوطني من خلال تصعيد قوى الإرهاب وقوى اسلاموية تفت في عضده، وعملت على احداث تغييرات كبيرة في موازين القوى فيه لصالح الكيان الصهيوني ودمجه فيه وتسيده عليه.
أمام جملة التحديات الأمنية والعسكرية والإقتصادية التي فرضتها جملة المتغيرات الآنفة الذكر، عمل الإتحاد الروسي على اعادة بناء اقتصاده، واعادة تنظيم مؤسساته الأمنية والعسكرية بغرض حماية مصالحه وضمان أمنه أمام تحدي الناتو وحلفائه .. وعمل على استعادة مجاله الحيوي الجغرافي السياسي والتاريخي، كما عمل على إقامة شبكة من العلاقات الدولية السيو اقتصادية والأمنية للحد من جموح وتطرف الولايات المتحدة الأمريكية ..
لقد كان سعي أوكرانيا للإنضمام إلى حلف الناتو وانضماممها إلى المنظومة الرأسمالية الغربية عسكريا وامنيا واقتصاديا يمثل التحدي الأبرز والأخطر للإتحاد الروسي، فكان الشعرة التي قصمت ظهر البعير، التي دفعت روسيا بوتين للقيام بما تقوم به الآن من عملية عسكرية جراحية في أوكرانيا، لما تمثله تلك التطلعات الأوكرانية من تهديد أمني وعسكري واقتصادي مباشر للإتحاد الروسي، واستهداف لروسيا ودورها كدولة عظمى، وقطبا موازيا للولايات المتحدة على المستوى الدولي.
لقد ارتكبت القيادة الأوكرانية حماقة وخطأ جسيما في حساباتها السياسية وتحالفاتها الغربية الجديدة .. وتطلعاتها لأن تكون عضوا في الناتو، دون حساب دقيق لرد الفعل الطبيعي على ذلك من دولة الإتحاد الروسي، لما يمثله ذلك من تحدٍ أمني وعسكري سافر لها، لا يمكن السكوت عليه، خاصة وأن روسيا بوتين اليوم ليست روسيا يلتسين أو جورباتشوف في العهد البائد..، بعد أن استطاعت بناء ذاتها عسكريا واقتصاديا، كما أمريكا والناتو أعجز من أن يوفروا لها الضمانة الكافية للسير في مثل هذا النهج والتحدي السافر لروسيا بوتين ..!
لكل هذه الأسباب مجتمعة عرَّضت القيادة الأوكرانية بلدها لهذا التدخل ولهذه الحرب من قبل روسيا ..!
كان الأجدى للقيادة الأكرانية أن تحافظ على علاقة مميزة مع الإتحاد الروسي وحسن الجوار تضمن من خلالها الحفاظ على وحدتها وأمنها واستقلالها وسيادتها ... بدلا من التغرير بها وتحويلها بلدها لساحة صراع وحرب بين روسيا الشقيقة لها وبين قوى الميجا امبريالية، ممثلة بالغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ..!
روسيا من خلال تصرفها المدروس والمحسوب بدقة تقدم رسالة واضحة للناتو وللولايات المتحدة مفادها أنها لن تسمح بمواصلة ازدرائها وتهديد أمنها ووحدتها، وتحديدا في مجالها الجيواستراتيجي، وأنها قادرة على حماية أمنها وردع اي تهديد يهددها ويهدد وحدتها وامنها ممن كان، وانها لن تتهاون في ذلك تحت أي اعتبار ..!
تؤكد روسيا من خلال هذا التدخل المباشر وهذه الحرب أنها فاعل رئيس في السياسة الدولية على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، وأنها ليست دولة من دول العالم الثالث تتحكم بها أمريكا أو غيرها، وبالتالي تضع روسيا بهذه السياسة حدا للقرن الأمريكي وللناتو الذي استباح العديد من الدول وعمل على نشر الحروب خلال العقود الثلاثة المنصرمة من يوغسلافيا إلى أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والقرن الإفريقي ...الخ.
روسيا بوتين اليوم قطب متكافئ مع امريكا والناتو في رسم السياسات الدولية، هذا ما يمثل هدف وغاية .. ومآلات الحرب الدائرة في وعلى أوكرانيا ..!
الرسالة الروسية قد وصلت إلى كل دول العالم ولا أحد يرغب في استمرار الحرب أو توسعتها لأن الجميع سيكون فيها مهزوما ولا يستطيع تحمل كلفتها ونتائجها، فلابد من التحرك الدبلوماسي والمفاوضات التي تقود إلى انهاء حالة الحرب وحالة التأزم التي باتت تؤثر على جميع الدول دون استثناء ..!
إن اللجوء إلى سياسة فرض العقوبات في حق روسيا لن تفلح في انهاء حالة التأزم ولن تعالج الأزمة الأوكرانية، إنما تزيد من تعقيد الأزمة وتدفع إلى مزيد من الاستفزاز الذي من شأنه أن يهدد الأمن والسلم الدولي برمته.
لابد للعالم أن ينهي حالة التأزم هذه بإزالة الأسباب التي أدت إليها، وهذا بيد القيادة الأوكرانية وبيد الناتو والغرب الذي غرر بها وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
على الولايات المتحدة أن تقر أنها لم تعد القطب الأوحد في العالم، وعليها أن تعترف بعودة الثنائية القطبية، دون إغراق العالم بالحروب المدمرة، وأن يجري احترام الجميع لمصالح الجميع، و العمل على تقوية وتفعيل الشرعية الدولية واحترام حقوق الإنسان في أي مكان، واحترام القانون الدولي وتفعيل قواعده في مواجهة الجميع على اساس من العدل والمساواة، والكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وليس تفعيل القانون الدولي على أسس مزاجية ومصلحية تكون ابعد ما يكون عن تحقيق غرض العدالة وضمان الأمن والسلم للجميع، للجميع يعني للجميع، وحل كافة القضايا القائمة والمزمنة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بما يكفل تحقيق الأمن والسلم الدولي لجميع الدول والشعوب.