تصل الحرب في أوكرانيا إلى هنا بعد أن تقطع الكثير من الحواجز والمسافات، تتخفف خلالها من التفاصيل والمقدمات والأفكار والوقائع التي دفعتها وقادتها لتصير حربا، والأهداف والنوايا والكمائن لتتحول من حرب إلى غزو روسي لأكبر الدول الأوروبية وشريكتها الأقرب في التاريخ والجغرافيا واللغة.
تصل وحيدة بدون تاريخ وأسباب، تخرج من تاريخها المركب وجغرافيتها المؤقتة والمتغيرة دائما، وعناصرها الكامنة، الأمن والعرق واللغة والكنيسة والنفوذ، لتتحول على موائد المقهى إلى ثنائية بسيطة وحاسمة بين دولتين جارتين قبل أن تتلخص في المقارنة بين رجلين يختصران كل شيء لتكتمل الثنائية في تجليها الأخير مختصرة في فلاديمير بوتين وفلادومير زيلنسكي.
يحب الناس وصف "بوتين" بالقيصر، ويمنحونه عبر هذه التسمية، التي لا تخلو من إعجاب، الإذن بغزو جورجيا واقتطاع أبخازيا وضم القرم، أو استعادتها عبر استفتاء شعبي محسوم، وهو نفس الإذن الذي حصل عليه ليدفع بجيشه إلى الشام ويبني مراكزه في طرطوس وحميميم، وتصل مجموعات فاغنر إلى ليبيا والساحل الأفريقي، ويواصل نفوذه، الآن، حيث تمزق الأرتال المدرعة الروسية غابات وسهول ومستنقعات أوكرانيا الشاسعة وتحاصر مدنها الكبرى وصولا إلى العاصمة "كييف".
ويذهب البعض أبعد من ذلك، الموالون للنظام السوري على وجه الخصوص، عبر إطلاق لقب "أبو علي" بحمولاته الشعبية الكثيفة على الرئيس الروسي الذي أنقذ نظام بشار الأسد في اللحظة الأخيرة، ولكنه في نفس الوقت حقق حلم القياصرة الروس بالوصول إلى مياه البحر المتوسط الدافئة.
خليط بين ستالين والقيصر، يحيطه حنين اليسار إلى الاتحاد السوفييتي الذي لم يتبدل، رغم تبدل كل شيء، بما فيه فكرة الرجل في الكرملين عن دور روسيا في العالم وعن العالم.
القطب الثاني في الثنائية المتشكلة يحاول بكل الوسائل زج الرئيس الأوكراني "زيلنسكي" في المقارنة. يحتاج زيلنسكي إلى روافع كثيرة وإضافات في كل اتجاه ليصعد في المقارنة، وهو ما تفعله بكامل طاقتها الماكينة الإعلامية الغربية بمشاركة مباشرة من الزعماء الغربيين، الذين تحولوا إلى منطقة بث نشطة لإغداق الصفات على الممثل الشاب ومنحه سمات تراجيدية، رغم أن سبع سنوات أو أقل من ظهوره السياسي لا تكفي لصناعة بطل، وهي سنوات سادها التخبط والتردد وغياب الإنجازات، أفقدته شعبية طارئة غير مؤسسة على تاريخ شخصي، وسيرة تقتصر على شعبية برنامج تلفزيوني تكاد تكون البنية التحتية لحضوره.
حصل زيلنسكي على فرصته الأهم بعد دخول الجيش الروسي لبلاده وبداية حصار العاصمة، وبدا أنه بدأ يراكم صفات، عبر تصريحات بلاغية متوالية ومدروسة، يبذل الرئيس الأوكراني، يبذل كل جهد ممكن ليقول أكبر كمية من الكلام في الوقت المحدود الذي يتناقص، يستحضر البلاغة اليسارية في المقاومة والمثاليات في التضحية ومعايير حقوق الإنسان والهولوكست والحرب العالمية الثانية ويختار جملا وعبارات مسرحية ومفارقات يلتقطها من أدوار قديمة ليبدو ملهما.
بينما يواصل حلفاؤه المفترضون دفعه أمام ساتر الرمل كما دفع هو أوكرانيا أمام دواليب الأرتال الروسية.