كيف نشأت الحضارة الأوروبية؟ (1من2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

كانت أوروبا قبل الحرب الروسية الأوكرانية قارة آمنة ومزدهرة وغنية، متطورة تكنولوجياً، ومتقدمة صناعياً، وقوية اقتصادياً، ومستقرة سياسياً (بمعنى أنها تجاوزت الحروب الأهلية والانقلابات، واستقرت حدودها السياسية)، جامعاتها الأفضل عالمياً تقدم للبشرية العلم والمعرفة والاختراعات، شوارعها نظيفة، أحياؤها مرتبة، الإنسان فيها محترم ومقدَّر، نظمها السياسية ديمقراطية، ولم تعد تعرف الحروب الدينية ولا الاضطرابات الأمنية، وقد باتت النموذج الأمثل، لذا أغلب الناس يتمنون العيش فيها.
ويمكن القول أنها تمثل الحضارة الغربية، والتي أصبحت حضارة معولمة، وهي في طريقها لتصبح حضارة إنسانية شاملة.
طبعا، الصورة ليست مثالية كما تبدو، فأوروبا تعاني من مشاكل وأزمات عديدة، كما كشفت أزمة أوكرانيا أنها لم تشفَ من العنصرية.. وهذا موضوع آخر، فالمقال يطرح أسئلة محددة: كيف وصلت أوروبا إلى هذه المرتبة؟ وكيف بنت حضارتها؟ وكيف خرجت من عصور الظلام؟
وقبل الإجابة، يجدر التذكير بأن أوروربا وكما قدمت الحضارة، والمعرفة، والعلوم، والاختراعات، والفنون، والفلسفة، والآداب، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.. قدمت أيضا الرأسمالية المتوحشة، والحروب والتدمير، وتاريخاً استعمارياً حافلاً بالمخازي، وشكلت أهم مصادر العنف والإرهاب في العالم.
فقد صدّرت العنف للشرق منذ الحروب «الصليبية»، ثم صدرته إلى أميركا مع المهاجرين الأوائل، والعنف الذي استخدمته كوسيلة للوصول للحرية والتخلص من تسلط الكنيسة أتى بالتطرف والحروب الدينية، والإصلاح الديني الذي بدأ مع مارتن لوثر، انحرف عن مساره على يد أتباعه الذين استخدموا البطش والعنف، وكانت نتيجته تقسيم أوروبا طائفياً وسياسياً، والتشجيع على نشوء التطرف وانتشاره. كما أن الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والمساواة أتت بنتائج متناقضة مع مبادئها، لأنها استخدمت القسوة والعنف في أساليبها. أيضا، العنف والتطرف الذي ظهر في بلدان العالم الثالث كان ردة فعل طبيعية على عنف الاستعمار الأوروبي الذي مورس بكل قسوة بحق شعوب تلك البلدان.. وكذلك الأيديولوجيات المتطرفة كالفاشية والنازية أتت كنتاج للأساليب الوحشية التي ظهرت في الحرب العالمية الأولى. بمعنى آخر، يمكننا القول بأن كافة أشكال التطرف، والأيديولوجيات العنيفة، والتعصب الوطني والمذهبي والعنصري الذي نراه اليوم في كافة بقاع العالم، بدأت مقدماتها بالظهور، ومعالمها بالتشكل في أثناء مراحل الصيرورة التاريخية التي مرت بها أوروبا في القرون القليلة الماضية.
ولكن، يتوجب إدراك أن أوروبا ومنذ النصف الثاني للقرن العشرين تختلف كلياً عمّا قبل ذلك، وهي تمثل الآن حقبة مختلفة بسماتها وخصائصها. وقد تختلف مرة ثانية على ضوء نتائج الحرب في أوكرانيا.
وبالعودة، إلى أسئلة المقال، يتوجب العودة قليلا إلى الوراء.
مبدئياً، يمكن اعتبار سنة 476 م بداية عصور الظلام في أوروبا، وهي السنة التي شهدت نهاية الإمبراطورية الرومانية في الغرب.. وكما اختلف المؤرخون على تحديد البدايات، اختلفوا أيضاً حول تحديد النقطة التي انتهت عندها، فقد رأى البعض أن نقطة التحول لنهاية القرون الوسطى كانت سنة 1453م، وهي سنة سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين، وفي تلك السنة أيضاً انتهت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا. فيما يرى آخرون أن بداية عصر النهضة مثلتها حركات الإصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر (1483 ـ 1546).
على أية حال، من الثابت أن أوروبا غرقت في بحر الظلمات مدة ألف عام، ثم بدأت صحوتها بعصر التنوير والنهضة ثم الثورة الصناعية، والتي استغرقت نحو 500 عام، قبل أن نرى أوروبا في صورتها الحالية.
ساد النظام الإقطاعي طوال القرون الوسطى، وقد استفحل خلالها الفقر والبؤس، وانتشرت الأوبئة والمجاعات، وكانت الكنيسة آنذاك كل شيء في أوروبا؛ تسيطر على كافة مناحي الحياة، من الولادة إلى الزواج حتى الممات. وكانت الأمية متفشية على أوسع نطاق، إذْ منعت الكنيسة الناسَّ من تعلم القراءة والكتابة، وكل من فكّر، أو اختلف مع الكنيسة، أو عبّرَ عن احتجاجه على مظالمها، اعتبرته مهرطقاً يستحق أقصى العقوبات.. ملايين النسوة أحرقن بتهمة السحر، ملايين الفقراء قضوا نحبهم في محاكم التفتيش، والتي كانت مخصصة بدايةً لمعاقبة المسيحيين المهرطقين، وكانت عقوباتها لا تقتصر على حرق كتب المفكرين، بل وحرقهم شخصياً. ولم تبقَ محاكم التفتيش مقتصرة على المسيحيين، إذْ شملت المسلمين واليهود في الأندلس.
في أواخر عصر الإقطاع طرأ تحول جوهري على أدوات ووسائل الإنتاج، فلم تعد الأرض والزراعة هي المصدر الأساسي للثروة، وحلت محلهما الصناعة والتجارة، وظهرت فئة الصناع والتجار كطبقة منتجة مستقلة، ما سمح بخلق فئة الرأسماليين الذين امتلكوا وسائل الإنتاج، وحققوا ثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية بجهودهم الشخصية ومن الفرص المتاحة، خلافاً لأفراد برجوازية عصر الإقطاع الذين امتلكوا ثرواتهم ومكانتهم بالوراثة.  
ومع حلول القرن السادس عشر بدأت الأحداث التالية تؤسس للمرحلة المقبلة (سأعرضها وفق التسلسل التاريخي)؛
أولا: نهاية الإمبراطورية البيزنطية، وسقوط القسطنطينية، ونتيجةً لذلك هاجر علماؤها وفنانوها صوب المدن الإيطالية، فزاد التنافس الثقافي والاقتصادي بين الإمارات الإيطالية، ما أدى إلى ازدهار الحركة الفنية والعلمية والثقافية.
ثانياً: في غرب أوروبا، سقطت غرناطة وانتهى الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية. وبدأت حركة الاستكشافات الجغرافية، وتم اكتشاف أميركا في نفس العام.. وكان قد سبقه اكتشاف رأس الرجاء الصالح، والذي أدى إلى تغيير طرق التجارة الدولية.
ثالثاً: ظهور الحركة الإنسانية وتحديداً في إيطاليا؛ وهي حركة فكرية فنية ساهمت في تطوير المعرفة، وركزت على تمجيد الإنسان باعتباره أرقى الكائنات، بعد أن كانت الكنيسة تحتقر جسد الإنسان وطبيعته، وتعتبره آثماً.. كما كانت تحتقر الجنس وتعتبره رذيلة.. وقد تميزت الأعمال الفنية في بدايات عصر النهضة بإعادة الاعتبار للإنسان، والنظر إليه على أنه صنيعة الله، وعلى صورته الجميلة، فصارت الأجساد العارية محوراً للوحات والمنحوتات. كما أعلت الحركة الإنسانية من قدر الإنسان الجسد، أعلت أيضا من قدر العقل، والتفكير العلمي والاستدلال بالبراهين بدلا من المقولات الدينية الرائجة. لكن إعادة الاعتبار للجنس سيتأخر إلى القرن العشرين، مع ظهور الثورة الجنسية.
وأهم رواد تلك الفترة ميكافيلي، مايكل أنجلو، دافنشي، رافايلو، جاليليو.. وغيرهم، الذين اهتموا بالترجمة، وبالفنون، وإحياء التراث القديم، وساعدهم في ذلك وجود الآثار والمخطوطات الرومانية واليونانية في إيطاليا، مستفيدين أيضا من إرث الحضارة الإسلامية.
وللحديث بقية..