نادي الأغنياء ونهاية التاريخ..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

ألمحنا في مقالة الثلاثاء الماضي، في معرض التعليق على الحدث الأوكراني، إلى ظواهر جديدة بعد نهاية الحرب الباردة، إلى نهاية التاريخ، وانقسام العالم بين أغنياء وفقراء. نهاية التاريخ سمة الأفكار الخلاصية، أصلها ديني يتمثل في نهاية العالم بتنويعات مختلفة، ولها اشتقاقات علمانية من نوع المجتمع اللاطبقي في الطور الأخير للاشتراكية، أو جنّة الحلم الرأسمالي الأميركي.
على أي حال، اقترنت فرضية نهاية التاريخ بمقالة، تحوّلت لاحقاً إلى كتاب يحمل العنوان نفسه، لعالم السياسة الأميركي فرنسيس فوكوياما. ولم يبق أحد من المعنيين إلا وتناول الفرضية بالتعليق. جوهر الفرضية أن نهاية الحرب الباردة، وانتصار العالم الحر (بما يعني من رأسمالية وديمقراطيات ليبرالية) أوصلا الإنسان إلى وضع انتهت فيه الأحداث والتحوّلات الراديكالية الكبرى.
برهنت هجمات 11 من أيلول الإرهابية، والحرب على الإرهاب، وحروب الغزو في أفغانستان والعراق، على تهافت الكلام عن نهاية للتاريخ، الذي لا ينتهي حتى مع نهاية وجود الإنسان على الأرض، طالما أن احتمال الانتقال للعيش في كواكب أُخرى بعد هلاك كوكبنا الذي لن يصبح صالحاً للحياة في قرون قادمة، يبدو احتمالاً واقعياً من ناحية تقنية.
ولنتوقّف قليلاً للكلام عن انقسام عالم ما بعد الحرب الباردة إلى أغنياء وفقراء. وهذه، كما أرى، أداة تحليلية جيّدة لتحليل العولمة، والليبرالية الجديدة، وما حدث في مناطق مختلفة على مدار ثلاثة عقود مضت. وعلينا، للاستطراد في الكلام عن تهافت فرضية نهاية العالم، الإشارة إلى ثورات الربيع العربي (التاريخية والمجيدة فعلاً)، فقد برهنت في حينها، وما زالت، على حقيقة أن نهاية التاريخ مجرّد وهم، وأن صناعة التاريخ مهنة لم يصبها البوار في مناطق مختلفة من العالم.
قلنا إن عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة انقسم إلى أغنياء وفقراء، بطريقة عابرة للحدود، واللغات، والقوميات، بمعنى أن نادي الأغنياء يضم أصحاب مليارات، ومصالح عابرة للقارات، وهؤلاء ليسوا من بلد أو قومية أو ديانة واحدة. ونضيف إن أصحاب مليارات في الهوامش الصحراوية، ومعهم القليل من أصحاب المليارات في الحواضر، قد التحقوا بنادي الأغنياء، وصاروا من أعضائه الفاعلين لأسباب تتعلّق بمركزية مصادر الطاقة، وطرق التجارة الدولية، وحركة رأس المال المالي في العالم، وحجم ما لديهم من أموال واستثمارات.
يخدم كل أصحاب المليارات بلادهم الأصلية طالما أن الإدارات الحاكمة لا تلحق الضرر بهم، ولكنهم ليسوا "قوميين" بالمعنى التقليدي للكلمة، وغالباً ما تُسهم مصالحهم في التأثير على اللعبة السياسية في بلدانهم. وهذا يختلف إلى حد بعيد في العالم العربي، لأن الغالبية العظمى من أصحاب المليارات، خاصة في الهوامش، هم الأغنياء والحكّام في وقت واحد، وما تبقى شركاء للحكّام، أما في الحواضر فالكثير من هؤلاء يدين بثروته نتيجة علاقة خاصة بالنخبة الحاكمة في عاصمة بلاده، خاصة إذا كان مقر إقامته فيها، وسيفقد الثروة، بالتأكيد، إذا أغضب الحكّام.
والواقع، أن حالة أغنياء الحواضر تشبه حالة الأغنياء الروس من حيث علاقتهم بالدولة الروسية، في زمن بوتين على نحو خاص، فهو ولي نعمتهم، وقد حصلوا في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، بما فيها روسيا، على ثرواتهم بعد تفكيك الدولة السوفياتية، والاستيلاء على بنيتها التحتية ومواردها الصناعية والزراعية بثمن بخس، والاحتكار في بلادهم، والاستثمار خارجها.
يستثمر الأغنياء الجدد في كل مكان في تقنية المعلومات، والتكنولوجيا، وتجارة السلاح، والنفط والغاز، ولديهم استثمارات في كل مكان من العالم. ولا إمكانية لفهم كيف ولماذا "سلام إبراهيم" في الشرق الأوسط، دون التفكير في نادي الأغنياء.
على أي حال، تختلف مهام الشركاء الأساسيين في نادي الأغنياء من مكان إلى آخر. القاسم المشترك بينهم أن الليبرالية الجديدة (أي فصل السوق عن القيم) هي الحل. ثمة ملايين التفاصيل الثقافية والسياسية، والتطبيقات العسكرية، لكيفية غسل الأدمغة، وتحقيق عملية الفصل. ومع ذلك، تختلف المهام الواقعة على عاتق الأغنياء من مكان إلى آخر.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم العربي فقد مثّل الربيع العربي، وظهور الدواعش، واندلاع الحروب الأهلية، (وضيق هامش المناورة مع مرور الوقت في موضوع الفصل بين الأيديولوجيا الدينية السائدة في الهوامش الصحراوية والإرهاب) تحديات استدعت ردود فعل استثنائية من جانب أغنياء الهوامش، وفرضت خصوصيات وثيقة الصلة بالسياسة والجغرافيا والتاريخ في العالم العربي.
وقد حدث هذا كله، ما زال في طور التكوين، على طريق، وطريقة، تكريس نهاية التاريخ، التي تعني بلغة الليبرالية الجديدة فصل السوق عن القيم، وتصفية الربيع العربي بالثورة المضادة، والتملّص من تهمة دعم الإرهاب، مع توابل محلية ("سلام إبراهيم"، مثلاً، بينما كانت تسمية ياسر عرفات لاتفاق أوسلو، بصرف النظر عن موقفنا منه، أو مدى صحة هذا الكلام: "سلام الشجعان"). اللغة لئيمة، ولا ينبغي الاستخفاف بها، فهي تلدغ من حين إلى آخر.
وما يعنينا أن الغزو الروسي لأوكرانيا يبدد وهم نهاية التاريخ، ويشق نادي الأغنياء، ويؤلّب الفقراء على الفقراء (حتى يأتي زمن يوحّدهم) ويعيد إلى الواجهة حقائق من نوع الصراعات القومية، والنزعات العدوانية التوسّعية، وضرورة المقاومة (حتى في أوروبا) فليس ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان (هذا إن توفّر، وما أدراك إذا كان في سياسة أغنياء الهوامش ما يهدد خبز الفقراء، ويبتزهم به). يحيا الإنسان بالحرية والكرامة، والعدالة والمساواة، وحتى بالحرب، إذا كانت شراً لا بد منه.