تعكس التطورات الجارية على المسرح الدولي حالة حرب باردة في طريقها إلى التصاعد، لها أبعادها الاستراتيجية بعيدة المدى، كما أن لها تعبيراتها الساخنة، وآثارها المباشرة المتمثلة فيما تتعرض له أوكرانيا من «عملية عسكرية خاصة»، وعملية سياسية تأسس عليها الغزو، والهدف هو تقطيع أوصال أوكرانيا، وتغيير نظامها السياسي، ووقف توجهها الغربي، ما لم تخضع هذه الدولة لمتطلبات الأمن القومي الروسي، وتتخلى عن آمالها التي تعتقد روسيا أنها تتضمن مخططات الإحاطة بها، وحصارها، وإضعافها، وتهديد أمنها واستقرارها، بفتح أبواب حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، وتحقيق التوسع الغربي سياسياً وعسكرياً نحو أوراسيا كلها.
وإذا ما اقتصرنا في بداية هذا المقال على الآثار المباشرة لعملية أوكرانيا، فإن في الدمار الذي تعرضت له مدنها، والهجرة لعشرات الألوف من سكانها، والخسائر البشرية التي تحملتها، ما يؤشر إلى شل حركة الحياة فيها، وتقليص إمكانياتها الإنتاجية من صناعة وتجارة وزراعة وسياحة، وغيرها، وبالتالي تقليص معاملاتها مع شركائها في هذه المجالات التي تربطها بدول ومجتمعات عديدة، ومنها دول ومجتمعات الشرق الأوسط والعالم العربي، وما يسببه ذلك من خسائر اقتصادية ومالية، وما يتطلبه الموقف الجديد من جهود عاجلة، قد لا تكون سهلة لإيجاد بدائل.
ونضيف إلى ذلك الشلل الذي أصاب المئات؛ بل الألوف، من طلبة العلم ومن أرباب الأعمال (خصوصاً في الصناعات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة)، والذين كانوا يملأون جامعات أوكرانيا ومنتدياتها وأسواقها، وعملية تحويلهم إلى وجهات أخرى. هذا كله بالإضافة إلى آثار العقوبات الموجهة ضد روسيا على مسار التجارة والاستثمار في كثير من مواقع العالم النامي، ومنه معظم دول العالم العربي.
والآن دعونا نأتي إلى بُعد آخر لا يقل أهمية؛ بل يزيد، وهو المتعلق بما يتصاعد من مواجهة استراتيجية شاملة بين الغرب كله وروسيا، ما من شأنه أن يعيد أوروبا إلى أجواء اعتاد الساسة الأوروبيون أن يواجهوها في فترات ما قبل الحروب الكبرى، والتي تدور حول محاولات التهدئة بتقديم تنازلات إلى الطرف المشاغب، من وجهة نظر مصالحهم؛ حتى يرضى.
وربما كان بوتين يتمنى ذلك ويدفع إليه، وقائمة مطالبه طويلة، لخصتها الحكومة الروسية في مذكرة تطلب عدداً من التعهدات والالتزامات لضمان أمنها، وتتعلق بحركة حلف الأطلسي، والأمن الروسي، وإحياء الاتفاقات التي جرت في التسعينات من القرن الماضي، لترتيب علاقات الأمن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، وهو ما لم تقبل به الولايات المتحدة في ردها، مما زاد من قلق روسيا.
نعم؛ يبدو أن الولايات المتحدة – والغرب من حولها – ليست في وارد تكرار سياسات التهدئة التي قادها رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومعروف طبعاً أن تعهدات كثيرة تم الالتزام بها في الاتفاقيات المذكورة، خرقها الغرب نفسه فيما يتعلق بضم دول الجوار الروسي الأوروبية إلى حلف الأطلسي، وضم معظمها إلى الاتحاد الأوروبي؛ بل إن جمهوريات البلطيق الثلاث: لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، أصبحت أعضاء في الحلف والاتحاد، وهي دول ليست فقط لصيقة ومجاورة لروسيا؛ بل إن أراضي بعضها متداخلة مع الأراضي الروسية (روسيا «ساكتة» عنها كما الغرب «ساكت» عن ضم شبه جزيرة القرم).
وهذا يشير إلى أن موضوع أوكرانيا لا يتعلق فقط من وجهة النظر الروسية بموضوع انضمامها إلى التحالفات والتجمعات الغربية، ولكن له أسباباً أخرى تتعلق بالمجال الجيوسياسي والأمني والثقافي والعرقي والديني والمصلحي، الذي تريد روسيا ترسيخ أقدامها فيه، وربما الانطلاق منه إلى طلب الاعتراف به، ليشمل بصفة خاصة أوكرانيا وجورجيا وروسيا البيضاء، ووقف أي سياسات أو تحركات عسكرية تتعارض مع ذلك.
وفي يقين كثير من المحللين السياسيين المعروفين بحسن اطلاعهم في الشأن الروسي – الأميركي، والروسي – الأوروبي، أن أميركا لا تعطي اهتماماً كبيراً للاعتبارات القومية الروسية؛ بل تعتبر أن روسيا كما قال أحدهم: «ليست إلا نيجيريا، ولكن مغطاة بالثلوج، ومن ثم فإن كانت الأمور قد كبُرت في دماغ روسيا، فتجب إفاقتها، أو حانت الفرصة لإفاقتها».
إنه لخطأ كبير في التقدير سيؤدي إلى تعقيدات دولية ذات تأثير سلبي واسع. فروسيا دولة نووية كبري لها مصالح تتعدى جوارها المباشر، ولا يجب التقليل من شأنها. ويتحدث بعض هؤلاء المحللين عن أن ما يحدث الآن إنما هو «مؤامرة يحيكها الغرب للإيقاع ببوتين وعقابه، وعزل روسيا التي يرأسها تمهيداً لإطاحته».
وبينما يقوم المنطق الروسي الذي يرى فيه كثيرون وجاهة (لاحظ أن أكثر من خمسين دولة امتنعت عن التصويت، أو تغيبت، أو اعترضت على قرار الجمعية العامة الأخير الخاص بأوكرانيا) ومقتضاه أن الأمن الروسي مهدد فعلاً بالتوسع الأطلسي، يقوم المنطق الأميركي على أن روسيا دولة كبيرة حقاً، ولكن من الدرجة الثانية، ولا يحق لها أن تقترح، ولا أن تطلب ترتيبات أمنية لها صبغة استراتيجية عالمية، تضع قيوداً على حركة الدول الغربية.
أما العنصر الآخر القائم على تجربة الصواريخ الروسية في كوبا عام 1962، وكانت على بُعد أقل من 90 ميلاً من الحدود الأميركية، والتي ترى روسيا أن على أميركا أن تتفهم المخاوف الروسية المشابهة للمخاوف الأميركية آنذاك، فإن الموقف الأميركي هو ما يشبه تعبير: «من أنتم حتى تقولوا لنا ما نفعل أو لا نفعل!». ورحم الله العقيد القذافي صاحب هذا التعبير التاريخي.
ينبني على ذلك كله أن الوجود الروسي في الشرق الأوسط (الفعلي في سوريا وليبيا، والسياسي في علاقات التقارب مع عدد من دول الخليج العربية وتركيا وإيران وإسرائيل) سيكون محل مراجعة من جانب الولايات المتحدة والتحالف الغربي الذي تعايش مع روسيا وسياستها الشرق أوسطية؛ بل اعتبر أحياناً هذا الوجود الروسي نافعاً للغرب ومؤدياً لأدوار مطلوبة؛ خصوصاً مع التنسيق الذي جرى مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل في سوريا، وفي غمار مجابهة التنظيمات الإرهابية، وكذلك في إطار الترتيبات الأميركية لمحور شرق آسيا (Pivot to Asia). فهل آن الأوان ليقلب التحالف الغربي لروسيا ظهر المجن، فيما يتعلق بوجودها ودورها في الشرق الأوسط؟ وألا يتطلب ذلك تنسيقاً غربياً إضافياً مع تركيا؟ ومعه دعم لدور إسرائيلي في هذا الإطار الإقليمي؛ بل: هل يتطلب ذلك الإسراع بإجراء بعض التفاهمات مع إيران؟ أقول هذا، وأستبعد أن يتم التفاهم مع أي جهة عربية على هذا المستوى الاستراتيجي، فيما عدا بعض الضغوط (وليست التفاهمات) لتقزيم أي علاقات تعاون عربي – روسي.
ثم علينا أن نتوقع تغييراً ما بشأن الوضع الروسي في البحر المتوسط، وهو ما يتعرض مباشرة للوجود الروسي وقواعده البحرية والجوية في سوريا، وكذلك إطار الوجود الروسي في ليبيا وإمكانيات بقائه. هذا يفتح الباب أيضاً لدراسة ما قد يحدث للوجود الروسي في منطقة الساحل والصحراء الغرب أفريقية، والمجاورة مباشرة لدول المغرب العربي.
هذا قليل من كثير متوقع، ولكن ليس سهلاً، بالنظر إلى ما لا يخفى على أحد من امتلاك بوتين تصميماً وقدرات قد تربك خطط الغرب أو تلحق به الضرر.
وفي النهاية، أود أن أركز على النقاط التالية:
الأولى: تتعلق بالخاسر الأكبر حتى الآن من تطورات روسيا/ أوكرانيا، وهي الأمم المتحدة والنظام الدولي ومبادئ القانون الدولي التي تم ويتم تحديها علناً من جانب كل الأطراف، وليس أحدها فقط. إن الاضطراب الجاري في دور مجلس الأمن، وعدم القدرة على صون السلم والأمن الدوليين (الدولتان العظميان عضوان دائمتان في مجلس الأمن، وتتمتعان بحق «الفيتو»، ومتهمتان – أو تبادلتا الاتهام – بخرق النظام الدولي، وبتهديد السلم والأمن الدوليين) فماذا يكون مصير الدول الصغيرة؟ وكيف تحل مشكلاتها وتواجه التهديدات لسيادتها واستقلالها؟ ونحن منها.
ثم إن التبعات الاقتصادية التي يتحملها النظام الدولي (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) جراء مكافحة «كورونا»، والأموال التي ترصد الآن لإنقاذ أوكرانيا، وتكاليف الهجرة النشطة في أوروبا وما وراءها، قد تقيد من مرونة هذه المؤسسات المالية الدولية في مساعدة الدول النامية، ونحن منها.
الثانية: إذا كانت الأمم المتحدة والنظام الدولي الحالي في عمومه الخاسر الأول من مجريات أحداث أوكرانيا، فإن الغرب في هذا الإطار هو الخاسر الآخر؛ لأن النظام الدولي الذي أقامه بزعامة الولايات المتحدة عام 1945، إذا انهار فإن نفوذ الغرب قد ينهار معه، أو يتقلص في مواجهة مقاومة ترى أن هذا النظام ينطوي على انحياز وعقوبات ضارة وازدواجية معايير، بالإضافة إلى عجز في الأداء يتطلب العمل على إقامة توافق جديد على نظام مختلف؛ أي أن التعددية الدولية والعولمة معها تتعرض الآن لتراجع واضح.
إلا أن هذا لا ينفي أن الغرب – حتى الآن وفي المجال قصير المدى وربما متوسطه – قد حقق مكاسب ظاهرة، أهمها العودة إلى مظاهر الوحدة، وتأكيد قيادة الولايات المتحدة له، والتخلي عن سياسات التردد والاضطراب التي أفقدت سياسة أميركا والغرب كثيراً من المصداقية والاحترام.
أما الخسارة الثالثة، فتتمثل في عودة نبرة العنصرية والجرأة؛ بل الحماقة التي كشفتها تصريحات إعلامية وسياسة غربية، عن تفضيل المهاجر أبيض البشرة أزرق العينين عن أي مهاجر آخر من الدول النامية، مما قد يؤدي إلى التخلي عن أعداد منهم لصالح المهاجر الأبيض؛ بل يمكن توقع غير ذلك من السياسات الشبيهة التي تؤثر في مصالح الدول النامية.
وتتجسد الخسارة الرابعة في تصاعد نبرة «أنت معي أو ضدي»، ولا يوجد موقف وسط، مما يعيد إلى الأذهان قول جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركي الأسبق: «إن عدم الانحياز ليس أخلاقياً»، وبالتالي: هل يكون الحياد اليوم، وما يعبر عنه تغيب أو تصويت البعض بالامتناع على قرار الجمعية العامة المقدم من جانب الدول الغربية، سبباً لمعاقبتهم هم أيضاً؟
* عضو «هيئة حكماء أفريقيا» ووزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام للجامعة العربية الأسبق.