بالنسبة للفلسطينيين، تصبح الحرب في أوكرانيا شأنا داخلياً، تصبح كذلك كلما تمددت يوماً إضافياً، وكلما وصل الجنود الروس بلدة جديدة في المتاهة الغريبة التي ترسمها قوافلهم في أوكرانيا، وكلما تمددت أرتالهم حول طرق ومدن جديدة وعبرها، وكلما تحرك الرتل الروسي العجيب نحو كييف، الرتل الذي أصبح شبح هذه الحرب وشخصيته الرئيسية، أو التقطت الأقمار الصناعية الغربية صوراً للوجبات الغذائية التي وصلت مؤخراً للرتل، أو مناظير الرؤية الليلية وصهاريج الوقود. وكلما أقاموا جسوراً محمولة على مجاري الأنهار، وكلما وصلت الى بولندا أعداد جديدة من اللاجئين البيض الذين تفرغهم قطارات قطعت الأصقاع الأوكرانية الشاسعة منطلقة من محطات خائفة، ومن مدن تذرع في فضاءاتها الباردة صفارات الإنذار ويصلها هدير جنازير الدبابات الروسية.
سيصل الكثير من اليهود الفارين من الحرب الأوكرانية الى هنا، كما يحدث دائماً، حدث ذلك عام 2014 وقبل ذلك بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، الشبكة المعدة لهم في إسرائيل منذ زمن ستبدأ العمل الآن، الذين لم يصلوا في آخر موجتين وواصلوا العيش في بلادهم سيفكرون هذه المرة من دون عواطف وطنية، هناك بين 120 الى 150 ألف يهودي أوكراني، حسب ليؤور خياط الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية، هذا العدد سيكون أقل بكثير عندما تنتهي هذه الحرب.
بالنسبة للرئيس زيلنسكي الذي صمد في عاصمته بشجاعة يصعب تجاهلها، فقد حسم أمره مبكراً وحصل على الجنسية الإسرائيلية قبل كل هذا، ستدفعهم إيلي شاكيد وزيرة الداخلية مباشرة الى المستوطنات في الضفة الغربية، وستتوقع استيعاب 15 ألف مهاجر في آذار الحالي، ستقودهم كأسباب لتصعيد احتلال الضفة والاستيلاء على مزيد من أراضي القرى الفلسطينية والأغوار، وكوسيلة لإنعاش الاقتصاد كما صرحت مؤخراً، ولكن ضمن شروط ومعايير دينية "لا تمس بالطابع القومي لدولة إسرائيل" حسب شاكيد، وستضع كل هذا كإنجاز في حملتها الانتخابية القادمة.
وسيفكر وزير الزراعة والجليل في الحكومة الإسرائيلية عوديد فورر، أن هجرة اليهود من أوكرانيا تمثل "فرصة لن تتكرر، وتضمن توسيع الاستيطان اليهودي في النقب والجليل" حيث تدور مواجهات بين قوانين مصادرة الأراضي وهدم القرى البدوية أو عزلها عن أراضيها، وتفكيك التجمعات البدوية بذرائع مختلقة في النقب على وجه الخصوص.
يوسي دغان، رئيس المستوطنات في شمال الضفة الغربية، أعلن أنه يتم الإعداد هذه الأيام لاستيعاب يهود مهاجرين من أوكرانيا في مستوطنات الضفة، تحديداً في مستوطنتي "رفيفيم" ويتسهار. وأن بعض العائلات وصلت بالفعل.
بعض خبراء الاقتصاد مثل ألكس زبجينسكي اعتبروا أن هناك فرصة لتحسين الاقتصاد من خلال الهجرة من أوكرانيا وروسيا، مستذكرين الدور الذي لعبته موجة الهجرة في التسعينات من القرن الماضي والتي رفعت نسبة نمو الاقتصاد من 1.5% الى أكثر من 6%
يأتون من الحرب المشتعلة الى الحرب التي ستشتعل، ولكنهم سيكونون الى جانب الدبابات وخلفها هذه المرة، وسيقفون على الحواجز على طرق الفلسطينيين ويشهرون بنادقهم في وجوه الأطفال وأمهاتهم، وستكون يدهم خفيفة على الزناد. سيفرون من الاحتلال الروسي الذي يجتاح بلادهم ليصبحوا قوة احتلال هنا.
سيتبدل كل شيء بالنسبة لهم، وسيأخذون دور الغزاة هذه المرة.
شاكيد تبدو الآن الجهة الوحيدة المفوضة بموضوع اللاجئين من أوكرانيا، الذين يتم فرزهم بدقة في مطار بن غوريون/اللد الى يهود وغير يهود، سينتظر غير اليهود ساعات طويلة وستوجههم شاكيد الى دول أخرى "قادرة على استيعابهم"، أما من يصر على اللجوء في إسرائيل، من غير اليهود، فعليه أن يخضع لشروط وإجراءات ودفع مبالغ مالية تصل الى أكثر من ثلاثة آلاف دولار.
سيقف بعض الفلسطينيين خلف عبارة "نحن تحت الاحتلال وعلينا أن نتضامن مع أي شعب يخضع للاحتلال"، أو "نحن عانينا من اللجوء والهجرة والاقتلاع ونجد أنفسنا الى جانب اللاجئين من أوكرانيا"، تبدو العبارة مثل جدار أخلاقي يحجب مفترق طرق، وسيبدو ساذجاً ومنجزاً ومعزولاً عن أسباب الحرب القائمة في شرق أوروبا، الحرب التي وصلت كمشهد تخفف عبر تسونامي دعائي غير مسبوق من أسبابه، حتى استعارة صورة البرج الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية في غزة للتدليل الى وحشية الجيش الروسي في أوكرانيا، الصورة جرى تداولها على نطاق واسع في الإعلام الغربي، قبل أن تشير صحيفة “يو إس إيه توداي” الى أن الصورة في غزة وليست من أوكرانيا. لا شك بأن الجيش الروسي حطم العديد من البنايات في أوكرانيا ودمر في طريقه الكثير من جهد الناس وحياتهم وأحلامهم، كما يفعل كل اجتياح عسكري وكما يفعل كل احتلال، ولكن المفارقة المخيفة تكمن في أن الصورة كانت موجودة دائماً في التجاهل عندما كانت من غزة، ولكنها حصلت على التضامن المثير للدهشة في الإعلام الغربي بمجرد تغيير هويتها. نوع من استعارة المأساة وتحصيل فوائد صافية والدفع نحو قرارات تضامن ودموع وصيحات تفجع في المؤتمرات الصحافية التي لا تتوقف، بينما أصحاب الصورة يواصلون تعثرهم في الحطام.
سيصعب فهم بطولة "زيلنسكي" أيضاً الذي قال في تعليقه على تدمير غزة أيار (مايو) 2021: "إن المأساة الوحيدة في غزة هي تلك التي عانى منها الإسرائيليون"، وسيكون نوعاً من التعامي على نفوذ النازيين الجدد في أوكرانيا وتأثيرهم في سياسات السلطة هناك، وحضورهم العنيف في الشارع، وتنفيذهم مجازر في مقاطعات الشرق، وهو ما تحدثت عنه صحف أميركية وبريطانية مرموقة مثل "واشنطن بوست" "ذا نيشن" و"الغارديان" بوضوح شديد، كما أشار المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في إحدى مقالاته الأخيرة التي تعرض فيها الى ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع المآسي الإنسانية.
سيكتشف الفلسطينيون عبث البحث عن دور دولي للضغط على الاحتلال الإسرائيلي، وأنهم لم يفعلوا شيئاً هناك في الهيئات الدولية، وأنهم لا يرغبون في ذلك، وأن سبعة عقود كاملة، وهو ما استغرقه الفلسطينيون في وصف مأساتهم الواضحة بوسائل شتى، منها الموت واللجوء، دون أن يحصلوا على شيء، حصل عليه الأوكرانيون في سبعة أيام.
في اتساع السؤال الأخلاقي، يصبح تجاوز الجدار والوقوف على المفترق نوعاً من اختبار الثقافة، يصمد الوعي الإنساني ويختفي المفترق ليتحول الى درب صاعدة: ضد الاحتلال والاقتلاع أياً كان، والى جانب المغلوبين والمهجرين أياً كانوا.