على هامش هدى وصالونها..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

طفت قضيتان على مدار أسبوع مضى. تتجلى كلتاهما، على السطح، بطريقة مختلفة، وتلتقيان عند الجذور. تتعلّق الأولى بالكلام عن "عنصرية" الأوكرانيين والأوروبيين، عموماً، تجاه العرب و"المسلمين" العالقين في أوكرانيا، والباحثين عن مكان آمن في بلدان مجاورة. ويُستنتج من منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أن "الجزيرة" القطرية تركب موجة التحريض والتجنيد، لعل الكراهية تنجب المزيد من "الإسلاميين".
أما الثانية فتتعلّق بفيلم، اتُهم مخرجه وممثلوه، وموضوع حبكته الدرامية، بخدش الحياء العام، ناهيك عمّا ارتكبوا من أخطاء وخطايا وطنية لا تليق "بصورتنا". ولعل في ردة الفعل هذه ما يبرر التعامل مع "صالون هدى" و"أصحاب ولا أعز" (الذي تكلمنا عنه قبل أسابيع) كحالة واحدة. يعني عدنا إلى ورطة ومصيبة "صورتنا"، و"روايتنا"، ومن المدخل البصري، السينمائي، نفسه، الذي سبق وقسّم عرباً كثيرين، ومنهم فلسطينيون، بالطبع، إلى مُدافعين ورافضين ومُرجئة.
لا أريد تفنيد ذرائع المنتقدين بالقول إن الأوروبيين ليسوا عنصريين، أو أن السينما، في الفيلمين المذكورين، لم تخدش الحياء العام، ولا ارتكبت معصية وطنية. فالصحيح أن في اتهام الغرب بالعنصرية ما يصدق عليه كلام يسوع: "يا مرائي، اخرج الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً". والصحيح أن خدش الحياء العام، كائناً ما كان، بكل ما يسمه من نفاق وازدواجية وكذب، وطرده من بورصات التبادل السياسي والأخلاقي والثقافي، من ضرورات البقاء في العالم، لا على هامشه، ولا في مكب نفاياته، كما أن في تحرير "الوطنية" من الشعبوية، والغرائز، ما يمد في عمرها، ويُغني حياتها. أكتبُ، وفي الذهن محمد الماغوط ونصوص "سأخون وطني" الساخرة والساحرة والبديعة.
ومع ذلك، ثمة ما يبرر فتح أكثر من قوس هنا: ففي وسعنا فهم "القضايا" المذكورة بطريقة أفضل، إذا صيغت بمفردات مختلفة، ووضعت في سياق آخر. لذا، بدلاً من الكلام عن ذريعة "العنصرية" والتدليل على فسادها، وسوء نية وطوية المستثمرين والمُحرّضين، فلنتكلّم عن الكيل بمكيالين، وازدواجية المعايير. وبدلاً من الكلام عمّا يخدش ولا يخدش "الحياء العام"، و"صورتنا" و"روايتنا" فلنتكلّم عن سلطة الرقابة، وضرورات وتجليات التابو، في صورته المعلمنة، كسلطة رقابية.
ننتقص كثيراً من دلالة الكيل بمكيالين، وازدواجية المعايير، إذا حصرناها في التناقضات البنيوية للمستثمرين النفطيين، وغيرهم، في سوق الكلام عن العنصرية. فهذه معركة سهلة يمكن كسبها بالكلام عن قوانين الأحوال المدنية في بلادهم، والمواطنة، والهجرة، والعمالة الأجنبية، ونظام الكفالة والكفيل، وقيود الزواج من الأجانب.. الخ.
والصحيح أن المعركة الأهم هي تشخيص ازدواجية المعايير، كمكوّن عضوي في صميم بنية وتاريخ وجينات وذاكرة و"عقل" النسق العربي ـ الإسلامي، وأن الأصولية، والداعشية أعلى مراحلها، ليست سوى ردة فعل انتحارية يائسة، ولعلها الأخيرة، قبل الاعتراف بتحلل وفساد النسق نفسه بعد انكشافه على العالم منذ الغزو النابليوني لمصر، وعدم قابليته للعيش، في التاريخ لا على هامشه، ما لم يفلت من عبء الازدواجية الثقيل.
ومن اللافت أن نجد، في سياق الكلام عن مسألة السلطة الرقابية والتابو، ما يفسّر أحد الأبعاد التاريخية العميقة، والمأساوية، فعلاً، لازدواجية النسق المذكور: ميله الدائم إلى التخويف والعنف، وحرصه العُصابي على الانضباط الشكلي البرّاني، وفقره الروحي والأخلاقي، وما ينتاب حرّاسه الأيديولوجيين، في الحقلين السياسي والديني، من شكوك تسوّغ لهم علاج الخواء الروحي، والفقر الأخلاقي، بمزيد من أشكال الانضباط والتقوى الشكلية البرّانية، والعنف والخوف.
نعرف أن ثمة سلطات رقابية، وتابوهات، في كل مكان من العالم. ومع ذلك، يمكن القول، وبقدر من الطمأنينة: إن ثمة علاقة نسبة وتناسب بين هوية وماهية النظام السياسي، ومكان ومكانة السلطة الرقابية، والتابو، في كل مكان، أيضاً. فكلما كانت الديمقراطية مكوّناً عضوياً من مكوّنات النظام السياسي، والثقافة السائدة، تقلّصت مساحة السلطة الرقابية، والتابو، والعكس صحيح.
وبما أن العكس صحيح، وهو كذلك، فلا ينبغي أن نغفل، ولو لحظة واحدة، عن ثلاثة أضلاع مركزية للتابو في بنية النسق العربي ـ الإسلامي هي السياسة والدين والجنس، وتمثل ما أطلق عليه السوري بوعلي ياسين منذ عقود أصبحت طويلة تسمية "الثالوث المُحرّم". ويبقى من واجبنا اكتشاف وتعريف العلاقة بين الثالوث وديمومة النسق نفسه، وآلياته الدفاعية، وسماته الوراثية، وطريقته في إعادة إنتاج نفسه في ظروف متغيّرة.
وبهذا المعنى، تمثل المرافعات التي سيقت في معرض إنشاء كينونة وهمية اسمها الحياء العام، والتدليل على خدشها، ناهيك عن تشويه "صورتنا" و"روايتنا" (في مصر وفلسطين، لا فرق، فالنسق واحد) وسيلة إيضاح مثالية لتشخيص الآليات الدفاعية، ورصد تجلياتها، وقراءة علاماتها.
الآلية الأولى، والمركزية، هي الغضب والعنف اللفظي كبديل لمقارعة الحجة بالحجة. ففي تعليق يتكوّن من 25 كلمة على هدى وصالونها وردت الكلمات التالية: "قذر، ساقط، وضيع، تافه، مُقرف، مُعيب، مستغل، بشع". وليت أحداً من المعلّمين في "بيرزيت"، مثلاً، يطلب من طلاّبه كتابة تحليل إحصائي لكل ما صدر عن الفيلم من تعليقات، وتبويب المفردات، بعد تصنيفها، في جداول لحصر مفردات العنف وتجلياته.
وقد نُذكّر بأشياء من نوع أن في ثماني مفردات جاءت على لسان ذكر تكلّم، مُتقمّصاً دور الغاضب، عن فيلم تعرّت فيه امرأة، ما يمثل منجماً للتنقيب في دلالات العلاقة بين الجنس وما يعاني الذكور من أوجاع ذكورة قلقة، وكيف يتم إسقاط هذا كله بفعل من أفعال التسامي الأخلاقي الكاذب. ما يصدق على الجنس، يصدق على بقية أضلاع الثالوث. لذا، يمكن إغناء وتوسيع آفاق النقاش، بقليل من الجهد المعرفي، والكثير من الصدق مع النفس، وفي هذا وذاك ما يُغني الحياة ولا يفقرها.