قبل أن تتشكّل حكومة بينيت – لابيد في إسرائيل بكثير، أثبتت أدوار ومواقف اتخذتها القوى المحسوبة على ما يُعرف بـ”اليسار الصهيوني” أن مرضها كامنٌ في إدارة ظهرها إلى قيم عالمية، مثل الليبرالية والاستقامة والعدالة، إلخ، وأنه حين تصطدم هذه القيم بفكرة الصهيونية، التي هي، في العموم، رديف التهويد ونقيض المساواة، فإنها تُغلّب الجانب الصهيوني على الجانب اليساري فيها.
ولعل أقرب نقطةٍ زمنية بالإمكان استحضارها بغية إنعاش ذاكرة القرّاء (وثمّة نقاط زمنية كثيرة قبلها سنستأنس ببعضها)، الحرب على لبنان عام 2006، التي عندما وضعت أوزارها، اعتبر حتى يوسي ساريد، الزعيم السابق لحزب ميرتس، أحد أقطاب “اليسار الصهيوني”، أن هذا اليسار أبرز المدفونين في قبر جماعي حفرته تلك الحرب لمجموعةٍ من ساسة إسرائيل وعسكرها وإعلامييها، نظرًا إلى أنه لم يفعل ما كان عليه أن يفعله، وهو معارضة الحرب بصريح العبارة، وبقي يمارس الرقص على حبلَين، بين المعارضة والتأييد للحرب، بمسوّغ أنها “عادلة” و”مبرّرة”. وتساءل: إذا كان هذا اليسار لم يتحرّك عند الامتحان، فمتى كان في نيته أن ينهض على قدميه؟ وقال إنه مع يسارٍ كهذا لا حاجة إلى وسط ولا إلى يمين.
وفي اليوم الثاني عشر للحرب، اجتمعت الأمانة العامة لحركة “السلام الآن” (يسارية) التي قادت في الماضي تظاهرات ضخمة احتجاجًا على ممارسات الجيش الإسرائيلي، سواء في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، لتبحث الموقف المطلوب اتخاذه حيال الحرب الدائرة، ولكن الاجتماع شهد انقسامًا وخلافاتٍ في الرأي، ما أدّى إلى عدم اتخاذ أي قرارٍ تفاديًا لكسر الإجماع الإسرائيلي. وكان لافتًا موقف الأمين العام للحركة حينذاك، ياريف أوبنهايمر، وهو ناشطٌ بارزٌ ضد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي قال إن “من غير المنطقي أن نتظاهر الآن. هذا يمسّ بالدولة. نحن مهاجَمون، وكل من يتظاهر الآن إنما يدعم المهاجِمين”!
يجدُر أن يُشار إلى أن هذا اليسار، الذي يحلو لبعضهم أن يعرّفه بأنه أقرب إلى “معسكر سلام” منه إلى اليسار بمفهومه الحقيقي، قدّم شهادةً على هشاشته من خلال السهولة التي هضم فيها ذرائع إخفاق مسار المفاوضات السوري – اللبناني والمسار الفلسطيني، وبرهن على أنه لا يؤيد السلام بدوافع أخلاقية عالمية، وأنه عند الاختبار يلوذ بحضن الوطنية العمياء والإجماع.
بطبيعة الحال، كانت هناك منظمات إسرائيلية تضع نصب أعينها قيمًا عالمية بصورة أوضح، مثل “تعايش”، و”كتلة السلام”، و”يوجد حدّ”، و”اللجنة ضد هدم البيوت”، و”مركز المعلومات البديلة”، تجنّدت على الفور للنضال ضد الحرب، لأن الحرب بدت لها منذ البداية غير مبرّرة وخاطئة من الناحية الأخلاقية، وتتناقض مع القيم التي تؤمن بها. لكن منظماتٍ يسارية أكثر رخاوة مثل “السلام الآن”، ومثل أحزاب “اليسار الصهيوني”، وبينها “ميرتس”، استغرقها وقتٌ أطول للانضمام إلى النضال ضد الحرب، عملًا بمقولة “عندما تطلق المدافع النار، على الناس أن تلتزم الصمت”.
وإذا كنّا نتكلم عن الحرب على لبنان، ففي فترة الحرب الإسرائيلية السابقة على هذا البلد (1982) مرّ شهر أو حتى أكثر قبل أن يبدأ اليسار الرخوي بالاحتجاج عليها، ومرّت شهور قبل أن ينضم قسم من حزب العمل الذي كان في حينه في المعارضة إلى حملة الاحتجاج. وعمومًا، هذا ما يسم أداء هذا اليسار، بما في ذلك النضال ضد القمع العنيف للشعب الفلسطيني خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.
أذكر أن أصواتًا، في ذلك الوقت تعالت، أكدت أن هناك حلقة معينة في الجدل العام في إسرائيل تعاني من إهمال مُريع، أو ربما من إقصاء مقصود، هي الحلقة التي يفترض أن تربط بين “الهوية الثقافية اليهودية” و”الهوية العالمية والليبرالية”، وذلك نتيجة لنشوء وضع شاذّ يقرّر الناس أو يختارون بموجبه أن يكونوا يهودًا أو أن يكونوا ليبراليين، كما لو أن هناك انتفاءً لإمكانية الربط بين الهويتين.