موقع فلسطين في الحرب الروسية الأوكرانية

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

بقلم مهند عبد الحميد

 

 

 

عند اندلاع الحرب، تختلف رؤيتها فيما إذا كانت من داخل قوالب قديمة جامدة عفا عليها الزمن، وبين رؤيتها ونقاشها من خلال معطياتها وأسبابها ودوافعها.
 وهناك فرق بين الاستثمار في الحرب حتى من باب التأييد وعدم الاكتراث بالويلات التي ستكون من نصيب الشعوب، بدءاً بعشرة ملايين أوكراني مشرد وآلاف الجرحى والقتلى، وانتهاء بالشعوب التي بدأت تدفع ثمن الحرب جوعاً وعذاباً، وبين مناهضة الحرب والاحتجاج ضد جرائمها والعمل على وقف القتل والتدمير والتشريد بأسرع وقت، وحل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية.
 لحسن الحظ أن أحزاباً ومنظمات وحقوقيين ومدافعين عن حقوق الإنسان في كل البلدان ناهضوا هذه الحرب كما ناهضوا الحروب السابقة، اخص بالذكر 25% من الشعب الروسي ناهضوا الحرب وطالبوا بوقفها، وأخص بالذكر أكثر شيوعيين ويساريين روس قالوا لا للحرب التي باتت رديفاً للنهب والهيمنة والإقصاء.
 الحرب لعنة حلت بالشعب الفلسطيني منذ قرن ويزيد، وعندما تندلع حرب جديدة كالحرب الروسية الأوكرانية، يفكر الفلسطيني العادي بالفارق بين حربه وحروب الآخرين. يتوقف عند الأسباب، لماذا أعلنت الحرب علينا مقارنة بالحرب على أوكرانيا.
في تسويغ الحرب ضدنا زعموا انه لا يوجد شعب فلسطيني، وأن ارض فلسطين هي أرض الميعاد التي اصبح اسمها أرض إسرائيل، وان المستوطنين هم احفاد الأجداد والآباء الذين جرى "نفيهم" من البلاد منذ 5 آلاف عام. وفي الحرب على اوكرانيا قالوا انها تفتقد مقومات القومية والدولة، وانها تاريخياً كانت جزءاً من روسيا وانها اصبحت قاعدة للنازيين الجدد وتهدد الأمن القومي الروسي. ولأن مزاعم الحركة الصهيونية محض افتراء، فما الذي يمنع افتراء روسيا البوتينية في الاعتقاد الفلسطيني. فلسطين برمتها ارض محتلة، وبحسب القانون الدولي فإن الأراضي المحتلة عام 67 هي المعترف عالمياً باحتلالها.
 نحن جربنا الاحتلال الذي اصبح أسلوب حياة يحصد حياة البعض ويرسل مواطنين وبخاصة الفئات الشابة الى المعتقلات، الأرض تصادَر والمياه تُسرق، ويعيش مليونا شخص في اكبر معتقل في العالم اسمه قطاع غزة، باختصار يتعرض الشعب الفلسطيني لخطر وجودي وبخاصة بعد إصدار قانون القومية العنصري، لكن الرئيس الأوكراني زيلينسكي في خطابه امام الكنيست قلب الحقيقة عندما قال ان إسرائيل تتعرض لخطر وجودي. الآن يجرب الشعب الأوكراني الاحتلال والتدمير والتشريد والموت والعذاب وسط تضامن شعوب العالم. نحن كشعب محتل نكره الاحتلال ونتوق للتحرر والانعتاق، ولا نريد ولا نتمنى للشعب الأوكراني ان يعيش تحت احتلال مباشر او عن بعد، وفي نفس الوقت نطالب ان يتم رفض كل أنواع الاحتلالات في سائر أنحاء العالم. ونطالب الشعب الاوكراني بعودة أوكرانيا عضواً في لجنة تمكين الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره، وان تتعامل الحكومة والرئيس مع مدينة القدس المحتلة كمدينة لا يمكن ان تناصر الشعب الأوكراني في مواجهة احتلال بلده لأن عقلية المحتلين واحدة.  
لقد ذقنا مرارة التشرد والتهجير والحرمان من المكان الذي ترعرعنا فيه وترعرع من قبلنا آباؤنا وأجدادنا فيه، وعانينا من تفكك العائلة الفلسطينية وتوزعها في أكثر من بلد ومكان. لا نريد لملايين الأوكرانيين ان يهجّروا ويتوزعوا خارج بلادهم، نريد وقف التهجير وعودتهم الى وطنهم بالقدر الذي نرغب فيه العودة الى وطننا.
مقابل ذلك نجد من بين ظهرانينا من لا يكترث بالحرب وويلاتها على الشعوب، ويرى في الغزو الروسي للشعب الأوكراني "خطوة استباقية استراتيجية شجاعة لوقف التمدد الإمبريالي ومنعه من الاستثمار في الحروب وتجارة السلاح"، ويدعو الى "هزيمة الناتو وأدواته في أوكرانيا". و"يرى ان الانتصار الروسي سينعكس بصورة إيجابية على القضايا العربية من خلال توسيع مساحة الممانعة للإملاءات الأميركية".
 والأغرب ان هذا الفريق يرى في الحرب على أوكرانيا امتدادا للمواجهة مع الإمبريالية. هذا التحليل ربما ينطبق على سبعينات القرن الماضي. فمن الذي يواجه الإمبريالية في حرب بمسمى استباقي مستعار بشكل غير خلاق من الحرب الاستباقية الأميركية؟.
قبل كل شيء، يلزم من أصحاب الرأي إعادة تعريف روسيا. هل روسيا تحارب الإمبريالية ومن أي موقع؟ روسيا نفسها  دولة رأسمالية إمبريالية بلبوس الإمبراطورية البائدة التي يتم إحياؤها الآن، وهي ذات تاريخ طويل من التوسع والضم واستعمار شعوب ودول أخرى، ولها باع طويل في كبح حق الشعوب في تقرير مصيرها وفي ممارسة القمع الدموي بحقها. الاضطهاد والاستبداد الروسي أساساً والإخفاق الاقتصادي وغياب الديمقراطية والغزو الثقافي الغربي هذه العوامل مجتمعة أدت الى انسلاخ 14 جمهورية غير روسية بعد الانهيار السوفييتي، كان أولها أوكرانيا التي صوت 92.3% من شعبها على قرار الانفصال عام 1991. منذ الانهيار جرى خصخصة 90% من اقتصاد الدولة لصالح أثرياء روسيا الذين سرعان ما تحولوا الى أوليغارشية. تحالف رأس المال المالي مع جهاز الدولة والشركات الكبيرة في فرض سيطرة على السوق المحلية، وفي الدخول الى الأسواق العالمية على قاعدة اقتصاد السوق وعلاقاته. روسيا دخلت سوق السلاح والحرب، وتتعامل بلغة المصالح، ولا تقيم أي وزن لمصالح الشعوب داخل الاتحاد الروسي وفي العالم. ما يهمها في سورية هو وجود قواعد عسكرية والدخول الى أسواق جديدة، وتتعامل مع إيران كسوق، وتتعامل مع إسرائيل على قاعدة المصالح، يكفي ان الأوليغارشيين الروس اليهود هربوا من العقوبات الى إسرائيل، وكذلك تتعامل مع الإمارات والسعودية وفي ليبيا مؤخراً على أساس المصالح. وتتعامل مع أوروبا وأميركا والصين على أساس المصالح. لغة المصالح وتبادلها وتوازنها هي لغة امبريالية بامتياز لا تشذ عنها روسيا. ومع ذلك يصر مريدو روسيا إطعامنا "جوزاً فاضياً"  من خلال الإصرار على ان روسيا تحارب الامبريالية، وللمفارقة فان روسيا لا تدعي انها تحارب الامبريالية، روسيا توسع نفوذها وتستعيد سيطرتها بالحرب وتمارس فعلاً إمبريالياً، تماماً كما فعل الغرب ولكن بأسلوب مغاير. الصراع على النفوذ والسيطرة بين نظامين من طبيعة امبريالية واحدة تماما كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وفي سياق صراع من هذا النوع يصعد قطب وينشأ آخر. قد ننتقل من قطب واحد، من شرطي واحد للعالم الى أكثر من شرطي، وطالما ان الأقطاب من طبيعة واحدة، وطالما كان الناظم للأقطاب هو المصالح، فلا يمكن تعويل الشعوب وبخاصة في الجنوب على الانتصار لقضاياها.
المقدمات كانت اكثر من واضحة منذ بداية تشكُل أقطاب جديدة، فقد دفعت الشعوب ثمن الصعود، وتحديداً دفع الشعب الفلسطيني الكثير مع بداية الصعود، ودفعت شعوب الربيع العربي أثماناً باهظة من الصاعدين والهابطين على حد سواء.