ما أن تعلن موسكو عن انتهاء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، إن كان بعد اتفاق مع كييف، أو دونه، حتى يتبين بأن عالم ما قبل 24 شباط الماضي، ليس هو الذي كان قبله، فرغم أن أحداً باستثناء بيلاروسيا التي سمحت للقوات الروسية بدخول الأرض الأوكرانية من حدودها البرية، لم يشارك عسكرياً في الحرب مع أحد طرفيها، إلا أن الحرب الاقتصادية التي أعلنتها الولايات المتحدة على روسيا مترافقة مع عمليتها العسكرية آنفة الذكر، تدفع دول العالم الى البحث عن اصطفافات إقليمية قد تتحول الى اصطفاف دولي في وقت لاحق، ليس بالضرورة أن ينتهي بثنائية دولية، بل الأقرب الى التوقع هو أن يتحول الى أقطاب متعددة.
ملامح هذا التشكل الدولي الذي يلوح في الأفق تظهر من خلال مواقف الدول مما يحدث حالياً، إن كان ذلك المتعلق بالمواقف السياسية أو الترتيبات التي تقوم بها عديد الدول على الصعيد الاقتصادي وحتى الأمني، ومن الواضح بأن قدرة الولايات المتحدة، على جرّ العالم وراءها كما حدث حين شنت الحرب على العراق بعد اجتياحه الكويت، أو حين دخلت قواتها العسكرية أفغانستان بعد عملية القاعدة ضد برجي التوأم في نيويورك، لم تتكرر هذه المرة، لسببين، أولهما أن روسيا ليست العراق وليست أفغانستان، كما أن هناك فارقاً زمنياً بين ما حدث من قبل وما يحدث الآن، تغير العالم خلاله، بما لا يسر الولايات المتحدة.
وحرب أميركا الاقتصادية/السياسية ضد روسيا، بدأت بجلسة مجلس الأمن ثم الجمعية العامة، بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية مباشرة، وكان مجرى التصويت في مجلس الأمن خاصة ذا دلالة بالغة، حيث امتنعت كل من الصين والهند والإمارات عن التصويت لصالح مشروع القرار الأميركي.
وحين اتبعت واشنطن اللجوء لمجلس الأمن والجمعية العامة بجملة من العقوبات الاقتصادية، يمكن القول بأنه باستثناء الدول الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبشكل عام دول الناتو، لم يستجب أحد مهم على الصعيد العالمي للإجراءات الأميركية، حتى أن المحاولة الأميركية لإغراق السوق العالمي بالنفط، تعويضاً عن اجراء الحجر على النفط الروسي عبر حليفها الرئيسي في هذا المجال، نقصد السعودية لم تفلح، فيما تنفيذ العقوبات نفسها لا يبدو بأنه سيجري بسلاسة، ذلك أن الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا القوة الاقتصادية الكبرى في أوروبا، تجد صعوبة بالغة في الاستغناء عن موارد الطاقة الروسية، فضلاً عن قطع التبادل التجاري معها بشكل مفاجئ أو فوري.
من خارج الاتحاد الأوروبي لم تظهر حليفات واشنطن، خاصة في الشرق، وفي الشرق الأوسط اصطفافاً مع الموقف الأميركي، وبالطبع يبدو هنا الموقف الإسرائيلي فارقاً، لعدة اعتبارات، وبحيث بدت كييف تشعر بأنها قد وقعت في ورطة، فهي تواجه الدب الروسي ميدانياً وحدها، ولا يبدو بأن الدعم اللوجستي العسكري كاف لصد الاجتياح الروسي لأراضيها، فيما من شبه المؤكد بأن العقوبات الاقتصادية لن تحقق نتائج فورية تؤدي الى وقف العملية العسكرية، أو منعها من تحقيق أهدافها.
من الواضح بأن محاولة عزل روسيا اقتصادياً عن العالم لن تنجح، فلا الصين ولا الهند ولا إيران، ولا حتى باكستان، وهي دول مهمة جداً في الشرق، وعلى صعيد التبادل التجاري، ستدخل دائرة الحرب التجارية ضد روسيا، بل إن دول الشرق الأوسط أيضا تبتعد تباعا عن الموقف الأميركي، وبشكل سريع يفاجئ البيت الأبيض، فالإمارات بعد امتناعها عن تأييد مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، استقبلت الرئيس السوري بشار الأسد، بشكل فاجأ الإدارة الأميركية، والموقف الإسرائيلي من الواضح أنه منقسم، بين وزير الخارجية ورئيس الحكومة، وإن كان قد توحد على اتخاذ موقف محايد تقريباً، لكن كان من المهم جداً، وكان أمراً ذا دلالة أن يجتمع مثلث الدول المؤثرة في الشرق الأوسط قبل أيام في شرم الشيخ للبحث في التداعيات الأمنية والاقتصادية للحرب في أوكرانيا.
أبو ظبي التي يبدو أنها هي التي بادرت الى ذلك اللقاء، بعد استقبالها للرئيس السوري، خاصة بعد أن تمت دعوة نفتالي بينيت رئيس الحكومة الإسرائيلية لينضم للقاء القمة بين الرئيس المصري وولي عهد أبو ظبي، لما تعنيه المشاركة الإسرائيلية من امتصاص لردة الفعل الأميركية على مواقف أبو ظبي، ومن الواضح أيضا بأن هناك توافقاً مع السعودية التي ما كان بإمكان ولي عهدها المشاركة في لقاء شرم الشيخ، نظراً لأن بلاده لم تطبع علاقتها بعد مع تل أبيب، بما يعني بأن الدول الثلاث التي تمتلك موارد مهمة على صعيد الطاقة من النفط والغاز، ليست في جيب أميركا، ولا يبدو بأنها على استعداد تلقائي لتزويد أوروبا بالغاز والنفط دون حسابات خاصة بها.
بعد شرم الشيخ مباشرة كشفت مصادر إسرائيلية عن أن إسرائيل حثت واشنطن على بيع طائرات إف 35 لمصر، التي يبدو أنها تحضر نفسها لأسوأ الخيارات في مواجهة مواصلة إثيوبيا سعيها لتشغيل سد النهضة الذي يهدد الأمن المائي المصري، وهكذا يظهر جلياً بأن الاصطفافات القادمة، خاصة منها ما هو إقليمي في حدود الشرق الأوسط الذي يهمنا أكثر من غيره، ستكون مختلفة، ولن تكون على أساس المتوارث الأيديولوجي كما كان الحال إبان الحرب الباردة، بل سيكون على أساس المصالح المتغيرة تباعاً، فلن يكون هناك عدو دائم كما لن يكون هناك صديق للأبد.
من بين دول المنطقة تبدو قطر أكثر من غيرها توافقا مع الموقف الأميركي الخاص بالعملية الروسية في أوكرانيا، وذلك على الصعيد الإعلامي بالتحديد حيث تقوم الجزيرة بتغطية متواصلة لما تسميها بالحرب الروسية على أوكرانيا، بسعي واضح لإظهار أن العملية العسكرية تلحق الخسائر بالمدنيين، وربما كان ذلك ثمناً لما أعلنته واشنطن مؤخراً من إعلاء مكانة الدوحة كحليف شريك من خارج الناتو.
عموماً، ما تحققه روسيا على الأرض، وما تواجهه من إجراءات أميركية، دفع الرئيس فلاديمير بوتين الى الانتقال من حالة الدفاع في حرب الاقتصاد للهجوم أول من أمس، حين أعلن بأن موسكو لن تقبل ثمناً لما يستورده الآخرون من نفطها وغازها، إلا بعملة بلاده، الروبل، بما قد يجعل منه عملة عالمية الى جانب الدولار واليورو، وبما رفع من قيمته فوراً مقابل تلك العملتين، وهكذا يمكن القول، بأن أفق العملية العسكرية الذي لن يطول كثيراً، يفتح الباب واسعاً على اصطفافات عالمية جديدة في إطار الحرب الاقتصادية التي ستقيم طويلاً، والتي لا يبدو بأن أميركا ستعيد تأهيل نفسها عبرها كقطب عالمي وحيد، في ظل وجود أكثر من منافس عالمي، ليست روسيا أهمهم أو أولهم ولا آخرهم.