بين الاصطفاف في طابور الاستنكار وإعادة الهيبة للعمل السياسيّ

حجم الخط

بقلم سليمان ابو ارشيد 

 

الاصطفاف في طابور الاستنكار طوعا أو عنوة تحت وطأة سيف الترهيب الإسرائيليّ، لا يعفينا، وربّما يعيق ضرورة التوقّف الجاد كداخل فلسطينيّ، عند العمليّات الأخيرة، ومحاولة فهم مؤشراتها ودلالاتها وتداعياتها على المجتمع الفلسطينيّ في الداخل.

لا يكفي القول إننا اخترنا العمل السياسيّ كأسلوب أساسيّ لنضالنا، وإن هذا الأسلوب نجح في الامتحان العمليّ وأثبت نجاعته كإستراتيجيّة عمَلٍ مكّنتنا من البقاء والتطوّر على أرضنا، ومن الجمع الموفّق بين الشقّ المدنيّ المتمثّل بالمواطنة في الدولة وبين الشقّ الوطنيّ المتمثّل بتعزيز هويّتنا الوطنيّة، والانتماء لشعبنا وقضيّته الوطنيّة.

نحن نعرف أنّ هذه المعادلة قد تمّ خرقها بفظاظة منقطعة النظير، وأنّ وجود القائمة العربيّة الموحدة في ائتلاف حكوميّ يتنكّر للحقوق الوطنيّة الأساسيّة لشعبنا، ما هو إلا تتويج لعمليّة بدأت بتحييد الخطاب الوطنيّ لصالح “خطاب التأثير والمنجَزات”، تُرجِمَت بالتوصية على غانتس، وانتهت بإسقاط الشقّ الوطنيّ في معادلتنا السياسيّة، ومقايضته بـ”إنجازات” مدنيّة بخسة.

الأنكى من ذلك أنّ مُصمِّمي هذا الخطاب الذين رأوا مآلاته ومستقرّاته النهائيّة التي وصَل بها منصور عباس، لم يراجِعوا أنفسهم ويتراجعوا، بل أرجعوا هذه النتيجة إلى “غشمنة” منصور عباس وفجاجته السياسيّة، وظلّوا يزايدون عليه من باب أنهم كانوا سيفعلون ذلك بذكاء سياسيّ يجلب مكاسب أكثر، وتنازلات أقلّ.

هذا الواقع عِوضا عن أن يضع القائمة المشتركة كمدافِعة عن النهج السياسيّ الأصيل لجماهيرنا في مواجهة انحراف القائمة الموحدة، ويحفظ بالتالي التوازن الوطنيّ في إطار منظومة العمل السياسيّ الذي يشكّل النشاط البرلمانيّ عِماده الأساس. وضَع المشتركة في المصاف نفسه، وأفقدها مصداقيّة التصدّي لنهج منصور عباس.

في ظلّ غياب قُطب آخر، وبخاصّة بعد إخراج الحركة الإسلاميّة عن القانون، وقمع التجمّع، وإنهاك أبناء البلد، وهي الحركات التي شكّلت التعبير السياسيّ المنظّم للحالة الوطنيّة التي لا تقطع الخيوط مع الدولة من خلال المواطَنة، واختيار العمل السياسيّ السلميّ أسلوبا لنشاطها، وطريقا يمكن من خلاله تحقيق أفكارها وأهدافها الوطنيّة؛ في ظلّ هذا الغياب، وكلّنا يذكر جيّدا أن غالبيّة العمليّات العسكريّة التي نفّذها نشطاء من الداخل، وقعت في فترة السبعينيّات مع انطلاقة واشتداد عود الكفاح المسلّح الفلسطينيّ، وفي ظلّ غياب تعبيرات وامتدادات سياسيّة لهذا الفِكر في الداخل، أي قبل ظهور أبناء البلد (أو في بداياتها) والتقدميّة والتجمّع، وغيرها من التنظيمات، وجاءت كردّ فعْل على حالة الاستقطاب التي قسّمت ساحة الداخل بين الشيوعيين وأحزاب السلطة وأعوانها، وانحسرت (للمفارقة) مع كنْس أحزاب السلطة ونشوء التيّارات الوطنيّة، وتبلوُر حالة الإجماع الوطنيّ.

وليس غريبا أنّ انكسار الإجماع الوطنيّ بما يعنيه من ضعف، وحتّى غياب المرجعيّة الوطنيّة الموحّدة، ونشوء حالة استقطاب؛ لا تشكِّل فيها الموحّدة والمشتركة قطبين فيها، كما هو متوقّع، بل تشكّلان قطبا واحدا، رغم التفاوت السياسيّ بين طرفيْه، فيما يشكّل الشارع غير المنظّم، أو الفاقد للتنظيمات، عنوة، قطبَها الثاني.

وبدون شكّ، إن إسرائيل وأذرعها الأمنيّة تتحمّل المسؤوليّة الأولى في تفكيك هذه “الرزمة”، بما احتوته من تناقضات وتوازنات شكّلت معا مظلّة سياسيّة جامعة للفلسطينيين العرب في الداخل، وائتلافًا ضَمَّ ألوانهم السياسيّة المتنوّعة، وقوّة موحّدة مهيمِنة قادرة على احتواء جميع النزعات الانفراديّة والفرديّة تحت جناحها الظليل، فحظْر الإسلاميّة الشماليّة وضرْب التجمّع، وإنهاك أبناء البلد، تسبّب بالإخلال بالتوازنات الداخليّة القائمة، نشأ عنها “نهج التأثير” والتوصية على غانتس ودخول الموحدة الائتلاف الحكوميّ، واعتراف عبّاس بيهوديّة الدولة وانضمام قطاعات من العرب لجهازَي الجيش والشرطة، من جهة، مقابِل هِبات غير منظّمة وعمليّات عسكريّة عشوائيّة كالتي حدثت مؤخّرا.

وغنِيٌ عن القول إنّ “لجْم” مثل هذه العمليّات في الداخل، لا يتمّ بإلقاء اللوْم على “حماس” و”الجهاد”، كما فعل أيمن عودة، بل بإعادة التوازن للساحة السياسيّة، وإعادة الهيبة للعمل السياسيّ كفعل وطنيّ ناجع وقادر على التصدّي للمحاولات العربيّة الإقليميّة، بالالتفاف على القضيّة الفلسطينيّة، وللمحاولات العربيّة المحليّة بمقايضة المدنيّ بالوطنيّ مقابل فتات الميزانيات، وبتشكيل قُطب وطنيّ قادر على التصدّي لهذا النهج وإسقاطه، وليس متذيِّلا له.