عندما بدأت روسيا حربها على أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي كان واضحاً أن المعركة ستكون بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة. وفي ذلك الوقت الذي انهالت فيه حزم من العقوبات الغربية على روسيا، كانت الدبلوماسية الأميركية تكثف من تحركاتها عبر العالم من أجل حشد التأييد الدولي للمواجهة مع روسيا. صحيح أن قيام روسيا بشن الحرب على أوكرانيا لم تكن له أي مسوغات، أو أعذار مقبولة على الرغم من تظلم موسكو الدائم من تمدد حلف شمال الأطلسي "الناتو" نحو حدودها، نقضاً لوعد منح قبل ثلاثة عقود للرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشوف من أن حلف "الناتو" لن يتمدد شبراً واحداً بعد انتهاء الحرب الباردة، وتوحيد ألمانيا، لكن الغرب كسر الوعد من خلال تمدد الحلف في اتجاهات عدة من بحر البلطيق الى شرق أوروبا، من دون إغفال "الغزل" الذي بلغ منطقة القوقاز، وتحديداً جورجيا.
لقد شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه على أوكرانيا انتقاماً من التاريخ، ومما سمّاه ذات يوم أكبر كارثة جيوسياسية في العصر الحديث، أي سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب. وبالرغم من تفوّق روسيا الكبير على المستوى العسكري، غير أنها وبعد مرور خمسة أسابيع على الحرب تبدو أقرب الى القوة التي تم استدراجها الى فخ الحرب التي لم تحسمها بعد، لا بل إنها عانت وتعاني من قصور عسكري كبير جعلها تتكبد خسائر فادحة انزلتها بها قوات الجيش الأوكراني المدعومة بالسلاح والخبرات الغربية الدفاعية. وها هي موسكو تستعد للانزلاق نحو حرب أطول، وأكثر تكلفة لها ولخصومها في الغرب. فالحرب المكلفة لروسيا، مكلفة أيضاً للولايات المتحدة، وأكثر لأوروبا، حيث يتداخل العبء العسكري بالعبء الإنساني والاقتصادي، وكل ذلك يجعل من هذه الحرب الأوروبية حرباً ذات بعد دولي حقيقي.
حتى الآن تمكن الغرب من حشد تأييد دولي واسع ضد روسيا، خصوصاً أن جانباً من الحرب يتعلق بتعميق مفاعيل العقوبات على روسيا التي لا سابق لها في تاريخ العقوبات في السياسة الدولية. لكن اللافت في حشد التأييد الذي ظهر جلياً في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة تنديداً بغزو أوكرانيا، أن الغرب ما استطاع أن يحشد حلفاءَ كانوا حتى الأمس القريب "مضمونين" الى جانبه. ولعل المثال الأبرز لذلك، المواقف العربية من المواجهة الغربية – الروسية، لا سيما مواقف الدول الحليفة تاريخياً للغرب عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً.
لقد كان لافتاً أن تقوم دولة الإمارات العربية المتحدة بالامتناع عن التصويت مع حلفائها الغربيين التاريخيين في مجلس الأمن، على الرغم من مسعى الولايات المتحدة وحلفائها المكثف لاستمالتها الى جانبهم. في ما بعد، صوتت الإمارات مع التنديد بالغزو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. بالتزامن مع الموقف الإماراتي الذي فوجئت به إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تمنّعت المملكة العربية السعودية والإمارات عن الإخلال باتفاقات مجموعة "أوبك +" التي تضم إضافة الى الدول المنتجة للنفط المنضوية في منظمة "أوبك" روسيا التي تعتبر من كبار منتجي النفط والغاز في العالم. وقد رفضت كل من الرياض وأبو ظبي رفع انتاجهما للتعويض عن الإمدادات الروسية الواقعة تحت مقصلة العقوبات. ولم تفلح كل محاولات واشنطن ولندن في حمل هاتين الدولتين للانضمام الى معسكر المواجهة ضد روسيا.
هذا الواقع الذي اكتشفه الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو ما كان مستغرباً من قبل المراقبين لحال العلاقات العربية – الأميركية في العام الأخير. فمن الواضح أن تلك العلاقات تراجعت الى حد كبير منذ الأيام الأولى لوصول بايدن الى البيت الأبيض، حيث بدا أن إدارة بايدن ما كانت سوى نسخة شبه مطابقة لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي يعتبره حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين مسؤولاً بشكل كبير عن تدهور العلاقات المشتركة، والأهم عن الانحياز الى جانب أعداء حلفائه، وفي المقدمة إيران. ولا حاجة للتذكير بمسار إدارة الرئيس أوباما خلال التفاوض حول الاتفاق النووي الذي وقّع في تموز (يوليو) 2015 عندما جرى الإخلال بأمن الدول العربية الحليفة القومية لصالح الانفتاح على إيران مالياً واقتصادياً بذريعة الاتفاق النووي، فتركت المنطقة أرضاً مفتوحة أمام مشروع إيران العدواني التوسعي الذي استحوذ على إمكانات مالية ضخمة وفرها له رفع العقوبات، ثم هرولة الغرب للاستثمار في إيران.
موّلت طهران سياستها التوسعية بدعم مختلف ميليشياتها وحروبها في المنطقة بالأموال التي حررها قرار رفع العقوبات عنها. وفي الوقت عينه لم يتوقف يوماً البرنامج العسكري السري، ولا برنامج تطوير الصواريخ البالستية. كانت إدارة الرئيس باراك أوباما تعتبر الاتفاق النووي إنجازاً للتاريخ، لكنه أتى على حساب المصالح القومية للحلفاء.
مع وصول الرئيس بايدن، سارعت إدارته الى الإعلان صراحة عن أن العودة الى الاتفاق النووي الإيراني سيكون أولوية، فجرى تشكيل الفريق المولج بالملف الإيراني، وعلى رأسه روبرت مالي العائد من إدارة أوباما السابقة، والمعروف بحماسته المفرطة للاتفاق، ولربط العلاقات مع طهران، بصرف النظر عن مصالح الحلفاء الذين كانوا في الوقت عينه يتعرضون للاعتداءات المتواصلة من جانب ميليشيات تابعة لإيران يديرها "الحرس الثوري". وقد بادرت إدارة بايدن الى رفع "ميليشيا الحوثي" عن لوائح الإرهاب، فيما ضيقت على السعودية لناحية إمدادات السلاح للدفاع عن نفسها بوجه الهجمات على منشآت مدنية على أراضيها من اليمن. وتمحورت سياسة واشنطن تحت إدارة الرئيس بايدن بعدائية واضحة تجاه السعودية، تارة تحت مسمى حقوق الإنسان، وطوراً تحت مسمى مسؤولية الرياض عن حرب اليمن. ووصل الأمر بعدائية الإدارة الأميركية إلى مستوى إساءة الرئيس نفسه الى أصول التعامل والتخاطب مع القيادة السعودية. ولم تتوقف اعتداءات "الميليشيات الحوثية" على الأراضي السعودية طوال الأشهر التي تلت رفعهم عن لوائح الإرهاب مترافقة مع قيام إدارة بايدن بمراجعة العلاقات بمناخ سلبي، وتعليق العديد من صفقات السلاح الضرورية للدفاع عن الأراضي السعودية. ولعل الطامة الكبرى كانت أن تجاهلت إدارة الرئيس بايدن حادثة استهداف الإمارات مباشرة بالصواريخ والمسيرات، وعدم استجابتها لمطلب حليفتها بإعادة إدراج "الحوثيين" على لوائح الإرهاب. أضف الى ذلك مراجعة التفاهمات حول بيع الإمارات طائرات "أف-35" من خلال عرض بيع نسخة منها أقل تطوراً من التي طلبتها الإمارات لحاجتها إليها.
إن مسلسل استهتار إدارة الرئيس بايدن بأمن حلفاء الولايات المتحدة، ومصالحهم القومية خلق شرخاً لا يستهان به بين الطرفين. وقد شكلت حرب روسيا على أوكرانيا مناسبة لكشف مدى الضرر الذي لحق بتلك العلاقات. وكانت مواقف الحلفاء دليلاً على جدية المشكلة، مثلما كانت القمم من شرم الشيخ الى العقبة، فالنقب والرباط التي جمعت حلفاء أميركا في المنطقة في إطار تحالف سياسي – اقتصادي – أمني وعسكري مؤشراً إلى أن ثمة متغيرات في المنطقة، وتمايزاً عن الولايات المتحدة يزداد وضوحاً. وقد يتوسع مع هذه الهرولة الأميركية – الأوروبية نحو إيران، تحت عنوان العودة الى الاتفاق النووي على ضعفه ونواقصه الفاضحة.
إن العلاقات العربية – الأميركية على المحك في الوقت الذي يميل فيه الميزان في البيت الأبيض راهناً صوب طهران بأي ثمن!