قبل أن تغرق إسرائيل في دولة فلسطينية بين النهر والبحر

20151403083322
حجم الخط

لنبدأ بالأمر الأكثر أهمية بشأن حياة دولة إسرائيل أو موتها. اذا لم يكن هنا دولتان سريعا فستكون هنا دولة واحدة. واذا كانت هنا دولة واحدة فهي ستكون دولة عربية من البحر الى النهر. واذا كانت هنا دولة عربية فلن نحسد أولادنا وأحفادنا.
قلت: دولة عربية من البحر الى النهر ولم أقل دولة ثنائية القومية. باستثناء سويسرا فإن كل الدول متعددة القوميات تصك أسنانها غضبا (بلجيكا وإسبانيا)، أو أنها انهارت أو تمر بحمام دموي (لبنان، قبرص، يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي).
إذا لم يكن هنا دولتان وسريعا فمن الممكن جدا من أجل إعاقة إقامة دولة عربية من البحر الى النهر أن تقوم هنا دكتاتورية تقمع بيد من حديد العرب والمعارضين من اليهود، تسيطر عليها، بصورة مؤقتة، دكتاتورية ذات سمات عنصرية. دكتاتورية كهذه لن تُعمر. تقريبا فإنه لا توجد أي دكتاتورية تقودها أقلية مضطهدة للأغلبية عمرت في العصر الحالي. ايضا في نهاية هذا الطريق تنتظرنا دولة عربية من النهر الى البحر، وقبل ذلك ربما ايضا مقاطعة دولية أو حمام دموي أو كلاهما.
يوجد عندنا كل أنواع الحكماء الذين يُحدثوننا بأنه لا يوجد حل للصراع، ولهذا فإنهم يدعون الى فكرة «إدارة الصراع». «إدارة الصراع» ستبدو مثلما بدا الصيف الأخير. «إدارة الصراع» تفسيرها هو استمرار لحرب لبنان الثانية والثالثة والرابعة والخامسة و»الرصاص المصبوب» و»عمود السحاب» و»الجرف الصامد» و»قوس مشدود» والجزم الحديدية والضربات القاتلة. وربما ايضا انتفاضة أو اثنتان في القدس و»المناطق». الى حين انهيار السلطة الفلسطينية وصعود «حماس»، أو جسم أكثر تطرفا من «حماس». هذا هو معنى «إدارة الصراع».
الآن سنتحدث لحظة عن حل الصراع: منذ 100 سنة وأكثر (يمكن أن ندعوها «100 عام من العزلة») لم يكن لدينا فيها ساعة أفضل لإنهاء الصراع. ليس بسبب أن العرب تحولوا فجأة ليصبحوا صهيونيين، وليس جراء أنهم مستعدون الآن للاعتراف بحقوقنا التاريخية في البلاد، ولكن بسبب أنه يوجد الآن وفي المستقبل المنظور لمصر والأردن والسعودية ودول الخليج ودول المغرب وحتى لسورية بشار الأسد عدو أكثر إلحاحا وأكثر فتكا وأكثر خطرا من دولة إسرائيل.
قبل 12 سنة وضعت أمامنا مبادرة السلام السعودية، التي هي في الاساس مبادرة الجامعة العربية. لا أوصي بأن تسارع إسرائيل للتوقيع على هذه المبادرة، ولكنها بالتأكيد مناسبة لنجري حولها مفاوضات ونساوم عليها. كان علينا القيام بذلك منذ 12 سنة، وربما كنا في مكان آخر تماما. لو قُدم لنا عرض كهذا في ايام بن غوريون وليفي اشكول، في ايام لاءات القمة العربية في الخرطوم، لكنا خرجنا جميعا للرقص في الشوارع.

دعوى وليس حقاً
سأقول الآن أمرا مختلَفا فيه: على الاقل منذ حرب «الايام السنة» في العام 1967 فإننا لم ننتصر في أي حرب. ولا في حرب «يوم الغفران». الحرب ليست لعبة كرة سلة، حيث يحصل فيها على الكأس من يحقق عددا أكبر من الاهداف. في الحرب حتى لو أننا أحرقنا دبابات أكثر مما حرق العدو وأسقطنا عددا أكبر من الطائرات واحتللنا اراضي من العدو، فلا يعني ذلك أننا انتصرنا. المنتصر في الحرب هو من يحقق هدفه، والخاسر هو من لا يحقق هدفه. في حرب «يوم الغفران» كان هدف أنور السادات هو انهاء الوضع الراهن الذي نشأ في العام 1967 وقد نجح في هذا. لقد هُزمنا لأننا لم نحقق هدفنا، ولم نحققه لأنه لم يكن لنا هدف، وايضا لم يكن بالامكان أن يكون لنا هدف يمكن تحقيقه بالقوة العسكرية.
هل قلت بهذا إن القوة العسكرية أمر زائد؟ لا سمح الله. في كل لحظة في السبعين سنة الاخيرة، فإن قوتنا العسكرية تقف دائما بيننا وبين الخراب والتدمير. وعلينا أن نتذكر فقط: عندما يدور الحديث عن اسرائيل وجاراتها، فإن قوتنا العسكرية يمكنها فقط أن تمنع. أن تمنع كارثة. أن تمنع تدميرا. أن تمنع ضربة جماعية لسكاننا، ولكن أن ننجح في الحروب، لا نستطيع. ببساطة لأنه ليس لنا أهداف يمكننا تحقيقها بالقوة العسكرية. وبسبب ذلك، فإنني أرى في فكرة «ادارة الصراع» وصفة لمشكلة بعد مشكلة، ولا أريد القول لهزيمة إثر هزيمة.
الكثير من الاسرائيليين يعتقدون – أو أنهم يغسلون دماغهم من اجل الاعتقاد – أنه فقط اذا أخذنا عصا طويلة جدا وضربنا بها العرب ضربة اخرى أقوى وأشد، فإنهم سينذهلون وسيتركوننا لشأننا مرة والى الأبد. والامور ستسير بشكل جيد. لقد مر نحو 20 سنة ولم يتركنا العرب لشأننا رغم عصانا الكبيرة. في هذه الايام فإن سلطتنا القمعية في «المناطق» المحتلة تعمل على انهيار السلطة الفلسطينية. بسقوطها سنجد أنفسنا نقف أيضا في الضفة أمام «حماس»، إن لم يكن اسوأ من ذلك؛ ملايين الفلسطينيين المستعبدين وعديمي الحقوق. نحو ثلث اراضي الضفة تمت سرقته من قبل اسرائيل والسرقة مستمرة.
اليمين والمستوطنون يقولون لنا إن لنا حقوقا في كل «ارض اسرائيل»، وحقوقا في «جبل الهيكل»، ولكن ماذا يقصدون بكلمة حق؟ الحق ليس ما أريده بشدة ولا أنني أشعر بدرجة كبيرة أنه يعود لي، لكن الحق هو ما يعترف الآخرون بأنه حقي لي. اذا لم يعترف الآخرون بحقي، أو اذا كان جزء منهم يعترف بحقي، عندها فإن ما هو موجود ليس حقاً لكنه دعوى. هذا هو الفرق بين الرملة ورام الله، بين حيفا ونابلس، بين بئر السبع والخليل: كل العالم، بما في ذلك معظم العالم العربي والاسلامي (باستثناء «حماس» و»حزب الله» وايران)، يعترف اليوم بأن حيفا وبئر السبع هي لنا، لكن لا أحد في العالم باستثناء المستوطنين ومؤيديهم في اليمين المتطرف الأميركي، يعترف بأن نابلس ورام الله لنا. هذا هو الفرق بين الحق والدعوى.
يقول المستوطنون وداعموهم: «يوجد لنا حق في كل ارض اسرائيل»، ولكن في الحقيقة فإنهم يقصدون القول لنا شيئا آخر تماما: ليس هناك حق لنا ولكنّ علينا واجبا دينيا أن نتمسك بكل شبر. عندما أقف بالقرب من ممر للمشاة فبالتأكيد يعني أن لي الحق في قطع الشارع، ولكن اذا رأيت شاحنة مسرعة نحوي بسرعة 100 كم في الساعة، فإن لي ايضا الحق الكامل بألا استخدم حقي ولا أقطع الشارع.
أتحدث مثلا عن «جبل الهيكل». لماذا لا يكون لليهود الحق في الصلاة في «جبل الهيكل»؟ لكن يوجد لنا ايضا حق بألا ننفذ في هذا الجيل هذا الحق. يوجد بيننا أناس يرون أن الصراع مع 200 مليون عربي هو أمر صغير، لقد بات مكروها لديهم، لقد بدأ يُضجرهم، يريدون اثارة. هم يريدون أن يجرونا الى حرب مع كل الاسلام، مع اندونيسيا وماليزيا وتركيا وباكستان النووية. أسأل هل نريد الموت من اجل الصلاة في «جبل الهيكل»؟ هذا ليس مكتوبا في أي مكان في المصادر الاسرائيلية. هذا ليس أمرا نموت دونه. من يريد تمرير حرب عالمية من اجل «جبل الهيكل» – بدوني، فليتفضل. بدون اولادي وبدون أحفادي.
أيضا الحرب ضد كل الاسلام لا تكفيهم. هناك من يجروننا الى حرب ضد كل العالم. قبل نحو اربعين سنة، في اليوم التالي لانقلاب 1977 وصعود «الليكود» الى الحكم، كان أحد محرري الصحف سعيدا جدا من الانقلاب، لدرجة أنه افتتح مقاله الرئيس بالكلمات التالية التي لا تنسى: «إن انتصار حزب الليكود في الانتخابات في اسرائيل يعيد أميركا الى حجمها الحقيقي». هناك اليوم ايضا كما يبدو محاولة اسرائيلية لارجاع أميركا الى حجمها الحقيقي. لتدمير التحالف بين أميركا واسرائيل لصالح تحالف بين يميننا المتطرف وبين اليمين المتطرف في أميركا. يقولون لنا الآن التالي: «زعيم العالم الحر يصارع وحده ضد المشروع النووي الايراني. لماذا الرئيس باراك اوباما يشوش عليه؟».
من المحظور علينا دائما أن ننسى أنه على الاقل وجدنا أنفسنا، مرتين في تاريخنا، في حرب ضد العالم تقريبا، وفي المرتين انتهى الامر بصورة سيئة جدا.
أرى أنه في ايام ليست بعيدة سنجد عمالا في امستردام ودبلن أو في مدريد سيمتنعون عن التعامل مع طائرات «إل عال»، والمشترون سيقاطعون المنتوجات الاسرائيلية ويُبقونها على الرفوف، والمستثمرون والسياح سيبتعدون عن هذه البلاد، والاقتصاد الاسرائيلي سينهار. نحن الآن على الاقل في منتصف الطريق الى هناك.
لقد علمنا بن غوريون أن دولة اسرائيل لا تستطيع الصمود بدون دعم دولة عظمى واحدة على الأقل. أي دولة عظمى؟ هذا أمر متغير. مرة بريطانيا ومرة حتى روسيا ستالين ومرة بريطانيا وفرنسا وفي العقود الاخيرة الولايات المتحدة. ولكن التحالف مع الولايات المتحدة هو بالتأكيد ليس جزءاً من انظمة الطبيعة. هذا التحالف هو عنصر متغير وليس عنصرا ثابتا. أحد المميزات المهمة جدا في حياة الانسان وحياة الشعوب هو التمييز بين ما هو ثابت وما هو متغير. خلال عقود قاموا باخافتنا من أنه اذا قمنا باعادة «المناطق» فإن «جيشا سوفييتيا سيظهر بالقرب من كفار سابا». لا استطيع القول لكم بصورة مؤكدة إننا اذا أخلينا «المناطق» فإن كل شيء سيكون مدهشا، ولكن يمكننا القول بيقين إن جيشا سوفييتيا بالقرب من كفار سابا لن يكون.
اولئك الذين أخافونا من جيش سوفييتي سيظهر على مداخل كفار سابا يخيفوننا الآن بأننا اذا انسحبنا من «المناطق» فستحلق صواريخ فوق تل ابيب ومطار بن غوريون وكفار سابا. لا أعرف بالتأكيد اذا كان هذا صحيحا أم لا، لكنني استطيع القول لكم بكل الصلاحيات الموجودة لدى رقيب في الجيش الاسرائيلي بأنه يمكن اليوم أن تصيب الصواريخ مطار بن غوريون وتل ابيب وكفار سابا ليس فقط من قلقيلية بل ايضا من العراق وباكستان وحتى من اندونيسيا. مرة اخرى، كما في موضوع الجيش السوفييتي في كفار سابا فإن أمامنا عدم تمييز محزن بين المتغير والثابت. اذا لم يكن اليوم فهو غدا أو بعد غد، سيكون بالامكان الاصابة باصابة قاتلة ودقيقة بالصواريخ من كل نقطة في العالم وفي كل نقطة في العالم. هل سنرسل الجيش لاحتلال كل الكرة الارضية؟.
إن كون الولايات المتحدة هي حليفتنا – هذا متغير. يمكنه أن يتغير. إن كون الفلسطينيين هم جيراننا وأننا نعيش في قلب العالم العربي والمسلم – هذا ثابت. حتى خطر الذرة أمر متغير وليس ثابتا؛ نظرا لأنه حتى لو أننا نحن أو آخرون قمنا بتفجير المنشآت النووية الايرانية فإننا لا نستطيع أن ندمر المعرفة. ونظرا لأن باكستان النووية يمكنها غدا أن تتحول الى دولة اسلامية متطرفة أكثر من ايران. ونظرا لأنه لا يوجد من سيمنع أعداءنا الاغنياء من شراء السلاح النووي الجاهز وتوجيهه ضدنا. وفي الاساس بسبب أنه بعد بضع سنوات فإن كل من يرغب في سلاح ابادة جماعية يستطيع الحصول عليه. ايضا هنا فإن الثابت يجب أن يكون هو قدرة ردع اسرائيل، أما قدرات اعدائنا، القدرات النووية وغيرها، فهي أمر متغير غير متعلق بنا في نهاية الامر. لقد قلت إنه خلافا لعدد من اصدقائي في اليسار الحمائمي، فإنني لا استطيع التعهد بأننا اذا خرجنا من «المناطق» باتفاق سلام فإن الكل سيكون مدهشا. لكني متأكد بأنه اذا بقينا في المناطق فالامر سيكون اسوأ. اذا بقينا في «المناطق»، ستقوم في نهاية الامر دولة عربية من البحر الى النهر.
في هذه النقطة أريد انتقاد نفسي وعدد من اصدقائي في اليسار الحمائمي. هناك ملايين الاسرائيليين ربما كانوا سيتنازلون عن «المناطق» مقابل السلام، لكنهم لا يثقون بالعرب. هم لا يريدون الخروج كأغبياء، هم يخافون. يجب ألا نستخف بالخوف ونسخر منه، يمكن التخلص من الخوف. يمكن صده. ربما لن تضر باليسار الحمائمي المشاركة قليلا في هذا الخوف. هناك ما يخيف. يجب عدم تحقير انسان يخاف، سواء أكان على حق أم لا. يجب مناقشة السلام مقابل الارض ليس باستهزاء ولا بسخرية ولكن كأناس يوازنون بين هذا الخطر وذاك.
خطأ آخر لبعض اصدقائي في اليسار الحمائمي. احيانا يبدو لهم أن السلام موضوع على رف عال في حانوت العاب بمجرد أن تمد يدك ستصل اليه. الوالد اسحق رابين تقريبا لمسه في اتفاقات اوسلو، ولكنه بخل في دفع كامل الثمن، ولم يحضر لنا اللعبة. الوالد ايهود باراك تقريبا لمسه في كامب ديفيد لكنه بخل في دفع الثمن وعاد بدون سلام. كذلك الامر مع الوالد ايهود اولمرت – والد بخيل، والد لا يحبنا بما فيه الكفاية. وإلا لكان دفع كامل الثمن واحضر لنا منذ فترة السلام المأمول.
كل هذا غير مقبول علي. اؤمن بأنه للسلام أكثر من شريك واحد، المثل العربي يقول «يد واحدة لا تصفق». ولكن اليوم يوجد لنا شريك للمفاوضات. من يغسلون أدمغتنا قالوا لنا طوال سنوات إن ياسر عرفات قوي جدا وسيئ جدا. الآن يقولون لنا إن أبو مازن ضعيف جدا. يقولون لنا طالما أن الفلسطينيين يقتلوننا فلا يمكن أن نصنع معهم سلاما، وعندما يتوقفون عن قتلنا فليس هناك سبب لصنع سلام معهم.

بيت ذو عائلتين
أحد المنطلقات الصهيونية الاساسية منذ عشرات السنين هو: لسنا وحدنا في هذه البلاد، لسنا وحدنا في القدس. ايضا لاصدقائي الفلسطينيين أقول الشيء ذاته، لستم وحدكم في هذه البلاد، ليس هناك مناص من تقسيم هذا البيت الصغير الى شقتين أصغر. نعم، بيت ذو عائلتين. الجار الجيد يصنع جارا جيدا، كتب الشاعر روبرت بروست.
فكرة الدولة ثنائية القومية التي نسمعها من اليسار المتطرف ومن اليمين المروض هي في رأيي نكتة محزنة. لا يمكن أن نتوقع من الاسرائيليين والفلسطينيين بعد 100 سنة من الدم والدموع والكوارث أن يقفزوا فجأة الى سرير الزواج ويبدؤوا شهر العسل.
لو أنه في العام 1945 اقترح أحدهم توحيد بولندا وألمانيا بدولة واحدة ثنائية القومية لكانوا قد وضعوه في مستشفى الامراض العقلية.
كنت كما يبدو الاول الذي كتب بعد وقت قصير من الانتصار الكبير في حرب «الايام الستة» أن «الاحتلال سيفسدنا»، وفي المقال ذاته كتبت أن الاحتلال يفسد المحتلين.
لا نستطيع والفلسطينيون التحول غدا الى «عائلة واحدة سعيدة». نحتاج الى طلاق معقول. بعد فترة ربما يأتي التعاون. سوق مشتركة فيدرالية، لكن في المرحلة الاولى يجب أن تكون البلاد بيتا تعيش فيه عائلتان، لأننا لن نذهب من هنا الى أي مكان آخر، ليس لدينا مكان نذهب إليه، وكذلك الفلسطينيون لن يذهبوا الى أي مكان، لأنه لا يوجد لديهم مكان يذهبون اليه. إن الشجار بيننا وبين الفلسطينيين في أساسه ليس رواية هوليوودية بين الأخيار والأشرار، لكنها تراجيديا الحق مقابل الحق، هكذا كتبت قبل خمسين عاما تقريبا، وبهذا اؤمن اليوم ايضا، العدل مقابل العدل، واحيانا للأسف عدم العدل مقابل عدم العدل.
طبيب جراح في غرفة الطوارئ، عندما يكون أمامه جريح مصاب بعدة أجهزة، سيسأل نفسه بما سنبدأ أولا، ما هو المستعجل، ما هو الشيء الذي سيقتل الجريح؟ في حالة دولة اسرائيل ليس الاضطهاد الديني وليس السكن الذي يمكن الوصول اليه، وحتى ليس ثمن «الميلكي»، لكنه استمرار الصراع مع العرب الآخذ في التحول الى حرب ضد كل العالم. حرب كهذه تعرض للخطر جوهر وجودنا. ربما هذا هو المكان لنكشف السر الامني السري جدا لدى اسرائيل، هذا السر هو أننا في الحقيقة ضعفاء جدا ودائما كنا ضعفاء جدا أكثر من أعدائنا مجتمعين.
أعداؤنا منذ عشرات السنين تغمرهم البلاغة المتوحشة حول تدمير اسرائيل ورمي اليهود في البحر. لقد كانوا يستطيعون بسهولة ارسال مليون مقاتل أو مليونين أو ثلاثة ملايين ضدنا. لم يرسلوا ضدنا في أي مرة أكثر من عشرات الآلاف لأنه ورغم البلاغة القاتلة فإن وجود اسرائيل أو تدميرها لم يكن بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، لا لسورية ولا لليبيا ولا لمصر ولا حتى لايران، ربما فقط للفلسطينيين، لكن لحسن حظنا هم أصغر من أن يتغلبوا علينا. في المحصلة العامة أعداؤنا كان يمكنهم التغلب علينا منذ زمن لو كان لديهم دافع حقيقي وليس دافعا بلاغيا ودعائيا للقيام بذلك. إن مغامرتنا في «جبل الهيكل» من شأنها، لا سمح الله، ان تعطيهم هذا الدافع.
لست متأكدا أنه يمكن انهاء هذا الشجار في يوم وليلة مع العرب. لكن يمكن المحاولة. اعتقد أنه كان بالامكان منذ فترة تقليص الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني الى صراع اسرائيلي غزي.
من الصعب أن تكون نبيا في ارض الانبياء. هناك الكثير جدا من المنافسة لكن تجربتي علمتني أنه في الشرق الاوسط كلمات «الى الأبد، أبدا أو بأي ثمن» تفسيرها شيء ما بين 6 اشهر و30 سنة. لو قالوا لي عند تجندي للاحتياط في سيناء في حرب «الايام الستة» وفي هضبة الجولان في حرب «يوم الغفران» إنني سأسافر لزيارة مصر والاردن بتأشيرة مصرية وتأشيرة اردنية على جواز سفري الاسرائيلي وإنني الحمامة الساعية الى السلام، كنت سأقول: «لا تبالغوا، ربما اولادي أو أحفادي، لكن ليس أنا».
في الختام أريد لفت الانتباه الى حقيقة أنه منذ عشرات السنين تحدث في هذه البلاد نوبة ذهبية ثقافية في الأدب والسينما والفن والهاي تيك والفلسفة والعلم والتكنولوجيا. بصورة عامة فإن الناس يتحدثون بشوق عن «النوبة الذهبية» فقط بعد مرورها. اسرائيل موجودة منذ عقود في ذروة هذه النوبة الذهبية الخلاقة. تل أبيب مثلا، المدينة العبرية الاولى، هي في رأيي منتوج جماعي لنا وليست أقل أهمية بل ربما أكثر أهمية من الأدب الديني الذي كُتب في الشتات أو من الشعر السفارادي. ربما تل ابيب ليست أقل أبهة من التلمود البابلي، وهي واحدة من انتاجاتنا الجماعية في «ارض اسرائيل».
هناك من يستخف بهذا المنتوج لأن الثقافة العبرية تبدو له يسارية جدا. لقد كان وما زال هناك في العالم أنظمة معتادة على التحريض ضد الثقافة بسبب حقيقة أنه تقريبا دائما وتقريبا في كل الازمان والامكنة فإن للعديد من منتجي الثقافة توجهات معارضة.
الآن يأتي اعتراف بسيط: أحب اسرائيل حتى عندما لا أستطيع تحملها، وإذا كتب علي أن أسقط ذات يوم في الشارع فأرغب في السقوط في شارع في اسرائيل، ليس في لندن أو باريس أو برلين أو نيويورك، بل هنا يرفعونني. وعندما أقف ثانية على قدمي فبالتأكيد سيكون هناك عدد ليس قليلا من الذين يريدون رؤيتي أسقط. لكن اذا سقطت ثانية فإنهم سيرفعونني.
أخاف جدا على المستقبل. أخاف من سياسة الحكومة وأخجل بها، أخاف لأن التزمت والعنف الآخذ في الانتشار عندنا يخجلني. لكن يروق لي أن أكون إسرائيليا، يروق لي أن أكون مواطنا في دولة فيها 8 ملايين رئيس حكومة، 8 ملايين نبي، 8 ملايين مسيح. كل واحد وصيغته الشخصية في الخلاص، كلهم يصرخون، وفقط القليلون يصغون. ليس مُملا هنا، واحيانا ربما يكون مُسليا من ناحية روحانية ومن ناحية المشاعر. ما رأيته هنا في حياتي أقل كثيرا وأكثر كثيرا مما حلم به آبائي وأجدادي.

عن «هآرتس»

* روائي وصحافي إسرائيلي، وبروفيسور في الأدب في جامعة بن غوريون. وهو من أبرز الدعاة والمؤيدين لحل الدولتين.