أميركا الآخذة في الزوال

حجم الخط

بقلم : ثوي لينه تو*

 

 

كان الحلم الأميركي الخاص بوالدي متعلقاً بالألمنيوم، فصحيح أنه لم يكن يتحدث عن أحلامه أبداً، ولكنه ظل على مدى 25 عاماً تقريباً يتوجه بشكل شبه يومي إلى المصنع الذي كان يعمل به ليقوم بتحويل الألمنيوم إلى أشياء أخرى، وقد بدأ العمل لدى شركة «تورينغتون»، التي كانت في يوم من الأيام واحدة من أكبر منتجي المحامل المعدنية في أميركا الشمالية، وأكبر مؤسسة في تورينغتون، بولاية كونيتيكت التي توفي فيها والدي بعد ثلاثة عقود من دخولنا إلى الولايات المتحدة، بعد أن أمضى بقية حياته يصنع الإمدادات الصناعية والعسكرية.


يعتبر الألمنيوم أحد المعادن السحرية، فهو خفيف وقوي لدرجة أنه لا يمكن القتال، ولا يمكن لأي حرب أن تصل إلى نتيجة ناجحة بدونه، إذ إنه يجعل الطائرات تحلق، ويجعل الدبابات أخف، ويمنع قرب المياه الخاصة بالجنود من الصدأ، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ذهب حوالي 90 في المائة من إنتاج الألمنيوم في الولايات المتحدة إلى الاستخدامات العسكرية.
وقد قضى والدي سنوات طويلة في العمل على هذا المعدن الشهير، إذ كان يعرفه جيداً، ولكنني أتساءل عما إذا كان يعرف أيضاً أنه كان مكوناً رئيسياً في قنابل «الأقحوان القاطع»، التي وُصفت ذات مرة بأنها أكبر سلاح غير نووي في العالم، والتي تم إلقاؤها بالقرب من منزل والدتي في وسط فيتنام، مما أدى لإزالة الأشجار المحيطة ببلدتها، إذ إن انفجار هذه القنابل يترك دوائر مدمرة في الأرض في جميع أنحاء البلاد، وقد تم استخدامها لأول مرة في فيتنام، ثم عاودت الظهور مرة أخرى بعد سنوات في أفغانستان، مما أدى إلى نزع أحشاء الجثث وتدمير المناظر الطبيعية في البلاد.
أمضت أميركا النصف الثاني من القرن العشرين وهي تكثف بشكل أو بآخر إنتاجها من تقنيات الحرب، وتوسع نظامها البيئي العسكري - الصناعي، وصحيح أن الحرب الكورية مثلت قفزة كبيرة إلى الأمام، حيث جلبت معها تقدماً في الأسلحة النووية، ولكن حرب فيتنام هي التي غيرت كل شيء، وكما يقول المؤرخ الاقتصادي آدم توز، فإننا لم نرث من هذا الصراع أسلحة جديدة فحسب، بل ورثنا أيضاً عقائد حربية أكثر تطوراً وتنسيقاً أفضل للقوات الجوية والبرية، كما حصلنا على جيش محترف وإيمان راسخ بضرورة الإنفاق العسكري، إذ إنه منذ الهزيمة في فيتنام والغزو السوفياتي لأفغانستان، أصبح من المستحيل تقريباً خفض الميزانيات العسكرية من دون إثارة غضب الأميركيين من إمكانية إغلاق المصانع والتعرض للتهديدات الدولية.
وقد دفع انسحاب الولايات المتحدة الأخير من أفغانستان الكثيرين إلى التساؤل عن مسؤولياتنا تجاه الأفغان الآن بعد أن توقف القتال، وقبل أن تتاح لنا الفرصة للإجابة، تسبب الاجتياح الروسي لأوكرانيا في نزوح ملايين آخرين، ومع تفاقم أزمة لاجئين أخرى ناجمة عن الحرب، فإن الإنفاق العسكري بات مستمراً في النمو، ففي الشهر الماضي، أعلن البيت الأبيض أنه منذ تولي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه، تم تخصيص ملياري دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا وحدها.
الحرب داخل المصانع الموجودة في جميع أنحاء الولايات المتحدة لا تنتهي أبداً، فهل ستتم دعوة النازحين حديثاً للمجيء وتصنيع المزيد من الأسلحة والتحريض على المزيد من الحروب؟ وهل سيقبلون هذا العمل باعتباره فرصة، أو حتى كشكل من أشكال الملاذ، لمواصلة دورة التدمير وإعادة البناء؟
وباعتبارها مدينة صناعية، تفتخر تورينغتون بكونها مكاناً يصنع الدراجات، والغيتارات، والإبر، والحوامل المعدنية، ورغم شُهرتها باعتبارها موطن الضواحي الهادئة، فإن ولاية كونيتيكت تصنع الكثير من الأشياء، بما في ذلك الأسلحة، فقد أنشأ جورج واشنطن مستودعاً فيدرالياً للأسلحة في سبرينغفيلد القريبة بولاية ماساتشوستس، وتم صنع أول بندقية عسكرية أميركية رسمية هناك بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر، وفي العقود التالية، أقام مصنعو الأسلحة مثل Colt وSmith & Wesson مصانع بالقرب منه، وحولوا هذه المنطقة الخلابة إلى «وادي السلاح».
وبحلول الوقت الذي أغلقت فيه في عام 1968، عند نقطة التحول في حرب فيتنام، كانت سبرينغفيلد قد أنتجت أسلحة نصف آلية لاستخدامها في كل الحروب التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى إغلاقها، وكانت كونيتيكت قد شهدت تصنيع العديد من الأشياء من البنادق إلى السيارات إلى محركات الطائرات.
ولعقود من الزمان، تلقت كونيتيكت مليارات الدولارات في شكل عقود من وزارة الدفاع الأميركية سنوياً، وفي عام 1990، تلقت الولاية ثامن أعلى ميزانية في البلاد، وكانت الثالثة من حيث نصيب الفرد من الإنفاق، وذلك رغم حجمها المتواضع وقلة عدد سكانها، وفي مدن مثل تورينغتون، أبقى تصنيع المحركات المزدوجة ومعدات الدفاع الأخرى المكان في دورة عمل مستمرة، إذ صنعت شركة «تورينغتون» المحامل اللازمة للشاحنات والجرارات والسيارات والمروحيات، وعلى بُعد أميال قليلة، كان هناك مصنع «هومت»، الذي عمل فيه والدي بعد ذلك، حيث كان يتم تصنيع الأجزاء اللازمة للطائرات، بما في ذلك الطائرة المقاتلة «إف - 35» ذات السُمعة السيئة، وبعبارة أخرى، فقد صنعت هذه الشركات الأجزاء التي حولت الرجال والآلات إلى مقاتلين، أو كما قال إعلان مصنع «تورينغتون» خلال الحرب العالمية الثانية: «نحن الذين نقف وراء الرجال الواقفين خلف البنادق».
فقد جلبت نهاية حرب فيتنام عائلات مثل عائلتنا إلى الولايات المتحدة، ولكن سرعان ما أغلقت المصانع أبوابها في كل مكان، وتم مؤخراً هدم العديد من مباني مصنع «تورينغتون» وذلك نتيجة لانسحاب الشركة الذي دام عقوداً من المدينة، بعدما نقلت أعمالها إلى منطقة الحزام الشمسي وخارجها، بسبب رُخص العمالة وضعف النقابات (أو عدم وجودها) هناك.
وقد قمت بزيارة تورينغتون، الصيف الماضي، لرؤية هذه المباني للمرة الأخيرة قبل أن تختفي، إذ كنت أمشي بجانبهم كل يوم في طريقي إلى المدرسة الإعدادية، ولكن بعد عقود من العمل، بات شكلها مخيفاً مع واجهاتهم المتداعية والنوافذ المكسورة والأراضي المليئة بالحصى، فقد ظهروا كنموذج مثالي لخراب ما بعد الصناعة.
وبينما كنت أشاهد تغطية الانسحاب من أفغانستان في الأخبار، لم يسعني إلا التفكير في والدي، الذي كان ليشعر بالصدمة من رؤية بعض المشاهد لأنها كانت ستبدو مألوفة للغاية، فقد قال كثيرون إن كابل هي بمثابة تكرار لما حدث في سايغون، فعلى مدى سنوات، بينما كانت فيتنام تحت الحظر الأميركي، كان الناس يجوعون بالطريقة التي يجوع بها العديد من الأفغان الآن، وقد تركت العديد من العائلات، مثل عائلتي، البلاد بعد تدمير الشوارع والاقتصاد، وجاءت سعياً وراء الأمل، وأستطيع أن أتخيل أن البعض في أفغانستان يفكر في الأمر نفسه.
ولكن كابل ليست في الحقيقة تكراراً لما حدث في سايغون ولكنها استمرار له، فالآن أصبحت الولايات المتحدة بمثابة دولة متقلصة، مع سياسات هجرة أقل سخاء، وفرص أقل، وشعور ضئيل بالمسؤولية عن الضرر الذي تسببت فيه.
وبعد فترة وجيزة من التقاعد، توفي والدي بعد مرضه باللوكيميا، وهي حالة تؤثر على العديد من قدامى المحاربين الأميركيين، إذ يعتقد البعض منهم أنها ناجمة عن تعرضهم لمادة «العامل البرتقالي» الكيميائية، التي أمطرت الولايات المتحدة ملايين الغالونات منه على فيتنام.
ويخشى البعض في أن يؤدي وباء فيروس كورونا المستجد الذي طال أمده إلى تسريح العمال في «هومت»، لأنهم غير متأكدين من مستقبل تورينغتون، فصحيح أنه لا أحد يريد أن يخسر ملاذاً، ولكن دولة الحرب لها دائماً رابحون وخاسرون، وفي بعض الأحيان، يكون من الصعب معرفة مكانك من بين هؤلاء.
* أستاذة التحليل الاجتماعي والثقافي في جامعة نيويورك
عن «نيويورك تايمز»