يشهد الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة مساعي لإعادة صياغة العلاقات بين الأطراف الإقليمية، انعكست في التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، والتقارب المصري والسعودي والإماراتي مع تركيا، ومحادثات أخرى، ومبادرة المشرق الجديد، إضافة إلى تصدر الإمارات عملية إعادة سوريا إلى الصف العربي. كذلك، عُقدت مؤخراً اجتماعات إقليمية عدة، كان آخرها الاجتماع الذي عُقد في النقب بمشاركة كل من الإمارات ومصر والبحرين والمغرب وإسرائيل، إضافة إلى الولايات المتحدة.
ومما لا شك فيه أن ما تقدم مؤشر إلى القلق الذي ينتاب تلك الدول من الوضع السائد في المنطقة، وخصوصاً التداعيات طويلة الأمد لعدد من التطورات، وأهمها: انخفاض اهتمام الولايات المتحدة بأمن المنطقة، وإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وترك سوريا واليمن وليبيا فريسة لمخططات خارجية؛ خصوصاً من قبل كل من إيران وتركيا.
لكن اللافت للانتباه هو كل هذه التحركات، باستثناء واحدة منها، لم تأتِ في سياق عملية تهدف إلى إنشاء هيكل أمني إقليمي يراعي مصالح الدول العربية.
وكان هذا الاستثناء هو اجتماع النقب؛ حيث حاول وزير الخارجية الإسرائيلي تصويره على أنه نقطة انطلاق نحو إنشاء هيكل أمني إقليمي جديد «يقوم على التقدم والتكنولوجيا والتسامح الديني والأمن والتعاون الاستخباري… لردع أعدائنا المشتركين، أولاً وقبل كل شيء: إيران ووكلاؤها».
وعلى الرغم من أنه لا يوجد نموذج واحد لنظم الأمن الإقليمية، فإنه يمكن تصنيف تلك النظم في مجموعتين: الأولى شاملة وتعاونية، بمعنى أنها تشمل جميع الدول الإقليمية، وتتعامل مع المسائل العسكرية والاقتصادية والإنسانية، كما هو الوضع بالنسبة لـ«منظمة الأمن والتعاون» في أوروبا، و«الآسيان» في جنوب شرقي آسيا، والثانية تأتي في شكل ترتيب سياسي عسكري، أي حلف عسكري، مثل «الناتو»، يهدف إلى مواجهة خصوم محتملين.
وما تقترحه إسرائيل هو النموذج الأخير، ولذا وصفه الإعلام الإسرائيلي والغربي بـ«الناتو الشرق أوسطي الصغير». إلا أنني أرى أن مصلحة العرب هي في إقامة نظام أمني شامل مبني على التعاون المشترك، يتضمن آلية لحل النزاعات، تضمن استقرار المنطقة في الأمد الطويل.
إن إنشاء نظام أمن إقليمي في الشرق الأوسط محل اهتمام إقليمي ودولي منذ عقود عدة، إلا أن معظم الجهود الرسمية لم تتعدَّ التمنيات التي جاءت في صورة قرارات دولية تطالب بإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، ومبادرات مختلفة حول إنشاء نظام أمني لمنطقة الخليج، وذلك باستثناء تشكيل مجموعة عمل حول ضبط التسلح والأمن الإقليمي في إطار مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط.
أما الجهود غير الرسمية فهي عديدة، وجاءت في شكل اجتماعات المسار الثاني (Track Two) التي شارك فيها مسؤولون سابقون من الدول المعنية، إضافة إلى دراسات أعدتها مراكز أبحاث.
وحتى يمكن إطلاق مناقشة حول أي من الخيارين يخدم مصالح العرب، فمن المفيد الإشارة إلى نتائج جهدين بُذلا مؤخراً، كان لي شرف الاشتراك فيهما، حول مسألة إقامة هيكل أمني في منطقة الشرق الأوسط؛ الأول هو اجتماع مسار ثانٍ نظمه معهد الاستشراق الروسي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، والثاني تقرير «المستقبل: رؤية لواقع عربي أفضل» الذي أصدرته في مارس (آذار) الماضي كلية الشؤون الدولية والسياسات العامة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، بمبادرة من وزير خارجية مصر الأسبق، عميد الكلية الحالي، نبيل فهمي.
وكان هدف اجتماع موسكو الذي شارك فيه مسؤولون سابقون وأعضاء مراكز أبحاث وصحافيون من معظم الدول الإقليمية، باستثناء إسرائيل، وباحثون ومسؤولون من روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين والهند، مناقشة الاقتراح الروسي بشأن الأمن الإقليمي في الخليج الذي كانت نسخته الأخيرة قد قُدمت إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، تحت عنوان «صيانة السلام والأمن الدوليين: الاستعراض الشامل للحالة في منطقة الخليج».
فعلى الرغم من أن الاجتماع ركز في البداية على كيفية إنشاء نظام أمني في الخليج، فإنه مع تقدم المناقشات توافقت الآراء على أن استقرار وديمومة مثل هذا الترتيب يجب أن يأتي في إطار أوسع يشمل منطقة الشرق الأوسط كلها (الدول العربية بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا)، ومن ثمّ فإن أي هيكل أمني في المنطقة ينبغي أن يكون من خلال عملية تشمل ثلاث دوائر متتالية: منطقة الخليج، ثم إقليم الشرق الأوسط كله، وفي نهاية المطاف المستوى الدولي، لحاجة النظام الإقليمي إلى ضمانات من الدول النووية، وذلك استناداً إلى أن الرابط بين الدوائر الثلاث هو ضرورة التخلص من أسلحة الدمار الشامل، ولا سيما الأسلحة النووية.
كذلك، اتفق على أن تكون العملية مرنة وبراغماتية، لتمكين الدول من المشاركة بالشكل والتوقيت الذي يناسبها في المناقشات، بشأن المواضيع المختلفة التي يجب على الهيكل الإقليمي تناولها، وهي على سبيل المثال: نزع السلاح، وإجراءات بناء الثقة، وحقوق الإنسان والمسائل الإنسانية، ومكافحة الإرهاب، والبيئة والمياه والطاقة، على أن تتم المناقشات كافة في إطار عملية مستوحاة من تجربة «منظمة الأمن والتعاون الأوروبي».
وهنا، يجب الأخذ في الاعتبار تجربة أزمة أوكرانيا، العضو في «منظمة الأمن والتعاون الأوروبي»، بمعنى أن استقرار أي نظام أمني يتطلب توازن المصالح، وعدم قيام طرف بفرض الأمر الواقع على الآخرين.
والجهد الثاني هو ما نتج عنه تقرير «المستقبل» الذي شارك في إعداده، على مدار ثلاث سنوات، مجموعة من الأكاديميين والمثقفين والدبلوماسيين العرب السابقين، بهدف رسم مسار مستقبلي لهيكل أمني شامل في الشرق الأوسط. ففي حين أكد التقرير الآثار السلبية للسياسات الحالية لكلٍّ من إسرائيل وتركيا على الأمن العربي، فإنه أقر بأن إنشاء نظام أمني مستقر ودائم يتطلب كذلك مشاركتهما.
وبعد تحليل الحالة الراهنة في المنطقة، وطرح سيناريوهات حول المستقبل، انتهى التقرير إلى عدة توصيات لتمكين الدول العربية من اتخاذ زمام المبادرة في إقامة نظام أمني إقليمي، كان أهمها: التركيز على الأمن الإنساني لمعالجة أوجه الضعف الهيكلي في الدول العربية، وتحقيق الاستقرار وإعادة التعمير في كل من سوريا وليبيا واليمن، لوقف التدخلات الأجنبية في المنطقة، ووضع تصورات لأطر أمنية إقليمية تتضمن بعداً نووياً، والحفاظ على حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، علاوة على توفير الدعم السياسي والاقتصادي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وعلى ضوء مشاركتي في الجهدين المشار إليهما أعلاه، وبعد الاطلاع على عديد من التقارير والدراسات حول إنشاء هيكل أمني لمنطقة الشرق الأوسط، توصلت إلى أن هناك عدداً من القواعد التي يجب الاستناد إليها لتحقيق هذا الهدف:
أولاً: ضرورة وضع مجموعة من القواعد السلوكية تلتزم بها دول المنطقة لحل النزاعات، ترتكز على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، لا سيما حق تقرير المصير للشعوب، واحترام سيادة جميع الدول واستقلالها وسلامتها الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ثانياً: الالتزام بالتدرج والمرونة خلال عملية الإنشاء.
ثالثاً: أن يكون هناك نظام لضبط التسلح ونزع أسلحة الدمار الشامل، وخصوصاً النووية منها.
رابعاً: إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة.
خامساً: ضرورة مشاركة كل دول المنطقة في عملية الإنشاء، وألا يكون النظام موجهاً ضد أي طرف.
في النهاية، يحدوني الأمل في أن يحفز تقرير «المستقبل»، إلى جانب نتائج اجتماع موسكو، الحكومات العربية على بدء مشاورات بشأن تحديد التهديدات المشتركة، واختيار النموذج الأمثل من الهياكل الأمنية التي تخدم مصالحها، والاتفاق على أسلوب التعاون فيما بينها لتعزيز قدراتها التفاوضية تجاه الدول الإقليمية الأخرى، التي ستكون في نهاية المطاف جزءاً من الهيكل الأمني الإقليمي.
* سفير مصري ومسؤول أممي سابق