الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي جدد السبت موقف مصر الثابت بالتوصل إلى حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطيني وفق المرجعيات الدولية، الأمر الذي من شأنه أن يفتح آفاقاً للتعايش والتعاون بين جميع شعوب المنطقة. وقد يسترجع هذا الخطاب زخمه ويتصدر الواجهة الإقليمية على ضوء تصاعد حدة الأوضاع في الأراضي المحتلة.
قلبت صدامات الضفة الغربية وما يجري في القدس تحديدا الكثير من الحسابات في أجندات قوى عديدة، ما جعل جهات كثيرة تعمل على تحجيم استمرار التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتجنب العوامل التي تخرجه عن نطاق السيطرة المعروفة، لذلك سارعت دوائر أممية وعربية إلى إجراء اتصالات لمنع تفاقم الموقف عسكريا.
وبدت البيئة الشعبية على الناحيتين الفلسطينية والإسرائيلية مهيأة للدخول في مرحلة جديدة من كسر العظام، ظهرت مؤشراتها عبر حوادث متفرقة وقعت خلال الأيام الماضية، وصلت ذروتها مع تزايد أعداد القتلى والجرحى في صفوف الطرفين واقتحام شباب فلسطينيين قبر النبي يوسف الأسبوع الماضي، وقيام قوات الاحتلال فجر الجمعة بالرد على هذه الخطوة باقتحام المسجد الأقصى وترويع المصلين.
كل الانتفاضات الفلسطينية التي حدثت من قبل في الأراضي المحتلة بدأت بحوادث من هذا النوع تقريبا، ثم ارتفعت وتيرتها لتتحول إلى مشهد تصعب السيطرة عليه بسهولة وكان هناك وقتها مستفيدون من جهات مختلفة يعملون على تغذية المواجهات حتى تمددت فصولها وتوقفت بعد إنهاك أطرافها الرئيسية أو التوصل إلى تسويات مؤقتة.
وتؤدي الاشتباكات المتواصلة أو اندلاع انتفاضة في الأراضي المحتلة إلى خلط الكثير من الأوراق، فلسطينيا وعربيا وإسرائيليا، وربما دوليا، ما دفع بعض الأطراف إلى تطويق أحداث القدس عبر مشاورات تجري على أكثر من مستوى، لأن خروجها من عقالها يؤثر سلبا على مشروعات تعاون وتفاهم بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
وجاء الرفض الواضح لتصرفات الاحتلال في المسجد الأقصى من جانب غالبية الدول العربية التي أبدت اهتماما بالحوار مع إسرائيل وتطوير العلاقات معها على قاعدة التشارك في قضايا إقليمية متباينة، في مقدمتها التصدي لطموحات إيران في المنطقة والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
وتؤثر الاشتباكات الجديدة سلبا على التوجه المشترك نحو استهداف طهران، وتقلل من فرص كسر شوكتها في المنطقة، وتجعل المشهد الفلسطيني يتصدر جزءا كبيرا في الحوارات الإقليمية، وقد تستغل إيران الأحداث الأخيرة وقلب الطاولة على إسرائيل، ما يمثل ضغوطا شعبية على بعض القيادات العربية ويفرمل التوجه نحو التطبيع.
ومثلت الإدانات العربية الصريحة أول مسمار في نعش استمرار مشاورات التنسيق في ملفات إقليمية مشتركة، وأكدت أن عدم وجود تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، أو على الأقل أفق عملي لها، سوف يقود إلى عدم اكتمال أي من مشروعات التعاون مسبقا، فلا تستطيع دولة عربية أو إسلامية تخطي انتهاكات يتعرض لها المسجد الأقصى أو تجاوز الإسراف في الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.
وتدرك إسرائيل أن الشوط الكبير الذي قطعته في مجال تطبيع العلاقات مع دول عربية عديدة يمكن أن يتحطم على هاتين الصخرتين، وإذا كانت قياداتها العسكرية أرادت الانتقام من تعرض عدد من الإسرائيليين للقتل والجرح في الأيام الماضية والرد على اقتحام قبر يوسف، فإنها لم تتوقع أن تكون ردات الفعل العربية بهذا المستوى من القوة، خاصة من الدول التي اعتقدت الحكومة الإسرائيلية أنها أصبحت قريبة منها.
وتقدم صدامات الضفة الغربية مجموعة من الدروس السياسية المهمة، تؤكد مدى الهشاشة التي تبدو عليها العلاقات العربية – الإسرائيلية، وأن الرهانات على تطويرها بعيدا عن القضية الفلسطينية محفوفة بالمخاطر، ففي خضم ذروة الضعف العربي لا تزال هذه القضية تنبض بالحياة ويصعب تجاهلها.
وتعيد هذه التطورات حديث التسوية إلى الأضواء، وبعيدا عن توافر مقوماتها الحقيقية من عدمه، فوجود عملية سياسية في حد ذاته يوحي بالأمل ويقطع الطريق على قوى، إقليمية وفلسطينية وإسرائيلية، ترى في استمرار الصدام حلا لأزماتها الداخلية.
إذا أرادت الحكومة الإسرائيلية اختبار الدول العربية من وراء تماديها في التصعيد من خلال اقتحام المسجد الأقصى فقد وصلتها رسالة مخيبة للآمال من جهات عدة، مفادها أن القدس لا تزال محفورة في الوجدان العربي، وخط يصعب تجاوزه، ويمكن أن تمثل تهديدا خطيرا لجميع أشكال التعاون التي يتم التمهيد لها ويراد لها أن تتوسع وتطال مجالات متعددة.
بداية فتيل صراع جديدة
وإذا أرادت هذه الحكومة التي فقدت أغلبيتها في الكنيست استعادة شعبيتها لدى المتشددين، فإنها يمكن أن تتكبد المزيد من الخسارة السياسية في ظل المواءمات المختلفة التي تقيمها، وتجعلها غير قادرة على فتح نوافذ تمثل منغصات جديدة لها.
وتعد الرسالة المخيفة التي وصلت إلى إسرائيل ومن راهنوا على أن تطبيع العلاقات يمكن أن يتوغل بعيدا عن إيجاد حل للقضية الفلسطينية، صادمة سياسيا إلى حد بعيد، فما جرى قطعه من مسافات خلال العامين الماضيين قد ينسفه اشتباك واحد على أرض المسجد الأقصى، ما يعني أن توسيع نطاق الاشتباكات ليشمل أماكن عدة في الضفة الغربية سيمثل تهديدا كبيرا لأفق التعاون بين إسرائيل وبعض الدول العربية، ناهيك عمّا كشفته الصدامات من إحراج لبعض القوى الغربية التي شيدت سردية أوكرانيا على أساس مظلومية شعبها بسبب التدخل العسكري الروسي في أراضيها، والآن تقف صامتة أمام تجاوزات قوات الاحتلال الإسرائيلي وتحاول تطويق الأحداث قبل أن تتصدر جانبا من المشهد الدولي الذي بات منصبا على التعامل مع روسيا والتفنن في فرض المزيد من العقوبات عليها.
وعلى الرغم من أن أحداث القدس أعادت القوى الفلسطينية إلى المشهد العام في المنطقة، غير أن قياداتها تقف عاجزة حيال التصرف معه، فالرئيس محمود عباس لا يعلم أي طريق يسلكه لضمان تحسين موقفه السياسي، فهو يتخوف من الدخول في صدام مع إسرائيل باتخاذ قرارات لفك الارتباطات معها فتنسف سلطته المهزوزة، ويخشى تشجيع الشباب وحضهم على الصمود فيبتلعون حركة فتح الواهنة حاليا.
لا يقل الوضع حساسية بالنسبة إلى حركة حماس التي تعالت أصواتها بالصراخ داعمة للشباب الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهي غير مستعدة للتضامن وإدخال آلتها العسكرية على خطوط الاشتباك مباشرة لأنها لا تريد في هذه المرحلة زحف الضربات الإسرائيلية على قطاع غزة وحرف ما يجري في القدس عن مساره الحالي، ويتسع نطاق الصدامات بما يعيدها إلى سيرتها الأولى من كر وفر وتكرار لمشاهد القصف المتبادل بين حماس وإسرائيل.
وتشير التحركات الراهنة إلى عدم رغبة قوى عديدة في إطالة أمد الصدام كي لا يؤدي إلى واقع تفرض معطياته الجديدة استحقاقات صعبة على أطرافها، ولا تستطيع تحمل تبعاتها، ويمكن أن تعيد النمط التقليدي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى الواجهة، وما يحمله ذلك من تكاليف سياسية اعتقد كثيرون أنهم تجاوزوها.