هآرتس : اليهود بين غضبهم من إنكار “الكارثة” وإدمانهم نكبة الفلسطينيين

دمتري-شومسكي.jpeg
حجم الخط

هآرتس– بقلم: ديمتري شومسكي

 

ربما نأمل بأن تنتهي الحرب الإمبريالية التي خاضتها روسيا البوتينية ضد الشعب الأوكراني، بخيبة أمل للإمبريالية الروسية القومية، مثلما انتهت من قبل الحرب بين روسيا واليابان في 1904 – 1905، وحرب الشتات السوفييتية ضد فنلندا في 1939 – 1940. ولكن إذا هزم الاحتلال الروسي بشكل نهائي، ربما يجبي ذلك من الأمة الأوكرانية إلى جانب الثمن الإنساني والمادي، ثمناً أخلاقياً لا بأس به. إذ يبدو الآن أن الرواية القومية الأوكرانية، مثلما هي آخذة في التشكل إزاء حملة القتل الروسية في أرجاء أوكرانيا، تعكس عناصر من الاستقامة القومية وإنكاراً للمسؤولية التاريخية أكثر فأكثر.

ودليل ذلك ما قدمه رئيس أوكرانيا فلودومير زيلينسكي في خطابه الشهر الماضي في الكنيست الإسرائيلي، في الوقت الذي عرض فيه صورة مشوهة للسلوك الأوكراني في فترة كارثة يهود الاتحاد السوفييتي. عندما جاء للوم، وبحق، حكومة إسرائيل بسبب رفضها الوقوف بصورة قاطعة إلى يمين الشعب الأوكراني في حرب وجوده ضد العدوان الروسي، قال زيلينسكي بأنه عندما وجد يهود أوكرانيا أنفسهم أمام العدو القاتل النازي في الحرب العالمية الثانية، اتخذ الشعب الأوكراني القرار الأخلاقي الصحيح وهبّ لمساعدة جيرانه اليهود.

كل من لهم خبرة، وإن قليلة، في تاريخ الكارثة في أوكرانيا السوفييتية، يعرفون أن هذا الأمور بعيدة عن الحقيقة. نعم، كان هناك أوكرانيون قلائل عرضوا حياتهم للخطر لإنقاذ حياة اليهود الذين وقفوا أمام رعب الإبادة، ويجدر في هذا السياق التذكير برئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الأوكرانية، أندريه شابتسكي، الذي رحب في الواقع باحتلال ألمانيا لأوكرانيا، لكنه عارض بشدة ملاحقة اليهود وشجع المؤمنين الذين خضعوا لإمرته على مساعدتهم. ولكن بشكل عام، وتحديداً الجهات التي كانت مرتبطة بوضوح بالقومية الأوكرانية الممأسسة، مثل رجال شرطة أوكرانيين، أخذت إلى جانب وحدات التصفية دوراً نشطاً في قتل جماعي لليهود. ولإدراك ذلك، يكفي إلقاء نظرة على الشهادة المروعة لدينا برونتشفا، من الناجين القلائل من مذبحة “بابي يار” في كييف، التي يمكن قراءتها في الرواية الوثائقية “بابي يار” لانتولي كوزنتسو.

بشكل غير مفاجئ، أقوال زيلينسكي المشوهة بخصوص دور الأوكرانيين في فترة الكارثة أثارت احتجااًج مبرراً لدى إسرائيليين كثيرين. وحتى أن عضو الكنيست الدكتور يوفال شتاينيتس، قال إن أقوال زيلينسكي تقارب إنكار الكارثة. لا بد أن زيلينسكي توقع مثل هذه الردود قبل حديثه. ورغم ذلك، لم يخش من إسماع أقوال الهواء هذه. سبب ذلك واضح، وهو أنه رغم إلقاء خطابه أمام أعضاء الكنيست في إسرائيل، إلا أن روايته تلك لم تكن موجهة أولاً وقبل كل شيء للأذن الإسرائيلية، بل للأذن الأوكرانية.

في أوج الحرب العادلة لأوكرانيا ضد الإمبريالية الروسية القاتلة، من المهم لزيلينسكي أن يكنس كل تفاصيل الماضي الأوكراني هذه تحت البساط القومي، والتي فيها ما قد يحطم الصورة الذاتية للأمة الأوكرانية كنموذج للاستقامة وطهارة الأخلاق. بالمناسبة، من الطبيعي أن ما بقي خارج الرواية الوطنية الأوكرانية هو الفظائع التي ارتكبتها قوات الشرطة الأوكرانية الموالية للنازية في “بابي يار” أو أعضاء الجناح العسكري في المنظمة القومية الأوكرانية في غرب أوكرانيا، الذين قتلوا جمهوراً من المواطنين اليهود والبولنديين الأبرياء بدم بارد بإلهام من الأيديولوجيا العرقية – القومية الفاشية لستيفان بنديرا (1909 – 1959)، وهو أحد أكثر الأبطال الوطنيين شهرة في أوكرانيا في الوقت الحالي.

يصعب عدم التماهي مع الازدراء الذي أثاره لدى الإسرائيليين جهد زيلينسكي الوقح كي يمحو من الذاكرة الجماعية الأوكرانية جرائم الأوكرانيين ضد أبناء شعبهم في فترة الكارثة. ولكن ثمة استغراب من الدهشة التي رافقت غضب إسرائيل بشأن إنكار زيلينسكي هذه الجرائم. هذا الاستغراب يشير أولاً وقبل كل شيء إلى نقص الوعي الذاتي القومي للإسرائيليين أنفسهم، حيث إن انكار ونسيان فصول سابقة غير مريحة بات من الأعمدة الأساسية للرواية القومية الصهيونية – الإسرائيلية. فإنكار نكبة الفلسطينيين وتدميرهم وطنياً بطردهم وتهجيرهم القسري ومنع عودتهم، إلى جانب استيلاء إجرامي نفذته إسرائيل على ممتلكاتهم، والمذابح التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي مثل التي ارتكبت في الطنطورة… هذا الإنكار يشكل أحد القسمات الواضحة للأنا الجماعية الإسرائيلية.

خلافاً للامة الأوكرانية، فإن الأمة اليهودية – الإسرائيلية لا تحارب الآن من أجل استقلالها ووجودها الثقافي، وإن وضع طوارئ وطني لا يفيد على أقل تقدير في مواجهة وطنية محايدة مع جرائم الماضي. رغم ذلك، في إسرائيل مثلما في أوكرانيا، لا يمكن تخيل مواجهة كهذه في المستقبل القريب. إذاً، أمامنا خط تشابه حزين بين القومية اليهودية الإسرائيلية والقومية الأوكرانية، الذي يصرخ حتى عنان السماء في هذه الفترة، في يوم الكارثة وعشية يوم النكبة.